الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه السادس: أن يقال: قولك: لو حصل منه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته، وتسلسل الحوادث فيها إلى غير نهاية وهو محال، ففعله دائم.

جوابه أن يقال: حصول الحوادث المنفصلة عنه إما أن يقف على حدوث شيء في ذاته، وإما أن لا يقف. فإن لم يقف بطل قولك: لو حصل شيء بعد أن لم يحصل لتغيرت ذاته، وتسلسلت فيها الحوادث. فإنك تجوز أن تحدث عنه جميع الحوادث من غير حدوث شيء في ذاته، فلا يكون حدوث الحوادث مستلزما لحدوث شيء في ذاته.

وإن كان حدوث الحوادث المنفصلة متوقفا على حدوث شيء في ذاته، لم يكن في ذلك بمحذور، فإن حدوث الحوادث مشهودة، وأنت لم تذكر حجة على امتناع هذا المعنى، ولكن أحدث امتناعه مسلما.

وتسميتك لذلك تغيرا ليس بحجة عقلية، فإن لفظ التغير مشترك، وهنا لا يراد به الاستحالة، بل يراد به نفس الفعل أو التحول أو ما يشبه ذلك، وأنت لا دليل لك على انتفاء ذلك، بل أنت تجوز على القديم أن يكون متغيرا بهذا الاعتبار، وتجوز على القديم أن يكون محلا للحوادث. [ ص: 227 ]

وتحقيق الكلام في هذا الموضع أن التسلسل هنا يراد به شيئان:

أحدهما: التسلسل في الفعل مطلقا.

والثاني: التسلسل في فعل شيء معين.

فالأول أن يراد به أنه لا يحدث شيئا من الأشياء أصلا حتى يحدث شيئا، فتكون حقيقة الكلام أنه لا يخلق حتى يخلق، ولا يفعل حتى يفعل، ولا يحدث حتى يحدث، وهذا ممتنع بالضرورة. وهذا في الحقيقة دور وليس بتسلسل، فإن معناه أنه لا يكون الشيء حتى يكون الشيء، فيلزم الجمع بين النقيضين، فإنه إذا لم يوجد حتى يوجد، لزم أن يكون معدوما موجودا.

وأما إذا قيل: لا يفعل شيئا إلا بشرط يقارنه، ولا يفعل ذلك الشرط إلا بشرط يقارنه، فهذا التسلسل في تمام التأثير، وليس بتسلسل أمور متعاقبة، وهذا هو التسلسل في تمام التأثير، والأول تسلسل في أصل التأثير، وكلاهما ممتنع.

والأول هو الذي ينبغي أن يراد بقول القائل: إذا لم يفعل ثم فعل، فلا بد من حدوث شيء: إما قدرة، وإما إرادة، وإما علم، وإما أمر من الأمور. ثم القول في حدوث ذلك كالقول في حدوث الأول. فإن هذا الثاني أيضا لا يحدث إلا بحدوث شيء يكون حادثا معه، فإن ما كان من تمام التأثير فلا بد أن يكون موجودا حين التأثير، لا يكفي وجوده قبله.

وحينئذ فيمكن تصوير هذه الحجة على وجهين:

أحدهما: أن يقال: لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا، ولا يفعل شيئا [ ص: 228 ] حتى يفعل شيئا. فإن حدوث الحادث بلا سبب حادث ممتنع.

والثاني: أن يقال: لا يحدث مفعولا إلا بحدوث قدرة، أو إرادة، أو علم أو نحو ذلك. ولا يحدث ذلك إلا بحدوث ما يوجب حدوثه، فيلزم أن لا يحدث شيئا، فإن هذا تسلسل في تمام التأثير. والتسلسل في تمام التأثير كالتسلسل في المؤثرين، فكما أنه يمتنع أن لا يكون مؤثرا إلا عن مؤثر، ولا يؤثر إلا عن مؤثر، وأنه يمتنع وجود علل ومعلولات لا نهاية لها، فلذلك يمتنع أن لا يتم كون الشيء علة أو فاعلا إلا بوجود أمر، ولا يتم وجود ذلك التمام إلا بوجود تمام آخر، إلى غير غاية. فهذا أيضا ممتنع باتفاق العقلاء.

وأما إذا قيل: لا يوجد الشيء حتى يوجد قبله شيء آخر، ولا يوجد ذلك الثاني حتى يوجد قبله شيء آخر، فهذا فيه النزاع المشهور، وهو تسلسل الآثار المعينة، لا تسلسل في أصل التأثير، فيجب تصور الفرق بين الأمرين.

وقد صور السهروردي هذه الحجة في كتابه المسمى بـ «حكمة الإشراق» وهو الذي ذكر فيه خلاصة ما عنده، ولم يقلد فيه المشائين، بل بين فيه خطأهم في مواضع، وذكر فيه طريقة فلاسفة الفرس المجوس والهند.

كما أن ابن سينا في كتابه المسمى بـ «الحكمة المشرقية» ذكر فيه بيان ما تبرهن عنده، وكذلك الرازي في «المباحث المشرقية».

التالي السابق


الخدمات العلمية