وقد وإن خالف في ذلك أهل البدع. اتفق أئمة الدين على إقرار اليهود والنصارى بالجزية، وعلى حل ذبائحهم ونسائهم،
وأما الفلاسفة فإما أن يكونوا من المشركين، وإما أن يكونوا من المجوس، وإما يكونوا من الصابئين، وإما أن يكونوا منتسبين إلى أهل الملل الثلاث. فمن كان من المشركين، كما يذكر عن الفلاسفة اليونان ونحوهم، أو من المجوس، كفلاسفة الفرس ونحوهم، فاليهود والنصارى [ ص: 208 ] خير منه، ولذلك هم خير من فلاسفة الصابئين. والصابئون للعلماء فيهم طريقتان: إحداهما: أنهم هل يقرون بالجزية أم لا؟ على قولين. والثانية: إنه يفصل الأمر فيهم، فمن تدين بدين أهل الكتاب ألحق بهم، وإلا فلا، وهاتان الطريقتان في مذهب وأحمد وغيرهما. الشافعي
والنزاع في إقرارهم بالجزية هو على قول من لا يقبل الجزية إلا من المجوس وأهل الكتاب، كقول الشافعي في إحدى الروايتين. وأما من يقر مشركي العجم بالجزية وأحمد كأبي حنيفة ومالك في الرواية الأخرى، فهؤلاء يتنازعون في حل ذبائحهم ونسائهم، ولذلك يتنازع في ذلك من يفرق بين الكتابي الذي دخل سلفه قبل النسخ والتبديل، وبين الذين دخلوا بعد النسخ والتبديل، كما هو قول وأحمد وطائفة من أصحاب الشافعي بناء على أن أهل الكتاب الاعتبار فيهم بنسبتهم، وهم من كان سلفهم مستمسكين به قبل النسخ والتبديل. لكن جمهور العلماء، أحمد، كمالك وأبي حنيفة في المنصوص عنه، على أن الاعتبار بنفس الرجل لا بنسبه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة. وأحمد
والمقصود هنا أنه من رجح بعض أقوال الفلاسفة، التي يخالفون فيها أقوال أهل الملل، كان شرا ممن رجح بعض أقوال اليهود والنصارى على أقوال المسلمين.
وإذا كانت الطريق التي سلكها أهل طريقة الأعراض والتركيب [ ص: 209 ] والاختصاص من أهل الكلام، يوجب أن يصلوا إلى حد يرجحون فيه طريقة الفلاسفة على طريقة سلفهم من أهل الكلام، علم بذلك أنهم جعلوا دين سلفهم المتكلمين أنقص من دين اليهود والنصارى بدرجتين إن كانوا مسلمين، وإن لم يكونوا مسلمين جعلوا قول الفلاسفة الملحدين خيرا من قول الأنبياء والمرسلين، فإنهم رجحوا كلام الفلاسفة على كلام سلفهم المتكلمين، مع اعتقادهم أن أقوال الفلاسفة المناقضة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم باطلة، وأن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة - لزم الأول.
وإن اعتقدوا أن قول الفلاسفة خير من قول سلفهم، وقول سلفهم هو قول الأنبياء، لزمهم أن يجعلوا قول الفلاسفة خيرا من قول الأنبياء، فإن طردوا قولهم لزمهم ترجيح اليهود والنصارى على سلفهم، أو ترجيح الفلاسفة على الأنبياء.
ومن كان أقل علما وإيمانا منهم مال إلى القول الثاني، ومن كان أعظم علما وإيمانا كان ميله إلى الأول أهون عليه، فإن الثاني كفر لا حيلة فيه، اللهم إلا أن يسلكوا مسلك القرامطة الباطنية، فيدعون أن ما أظهرته الأنبياء من الأقوال والأفعال إنما هو للجهال والعامة دون الخاصة، وأن لهذه الأقوال والأعمال بواطن تخالف ما أظهروه.
وحينئذ فهؤلاء شر الطوائف. هم شر من اليهود والنصارى، ومن الفلاسفة المشركين القدماء الذين لم تقم عليهم حجة بكتاب منزل ونبي مرسل، فإن أولئك، وإن كانوا ضالين، فهؤلاء شركوهم في الضلال، ولكن هؤلاء حصل من حجة الله عليهم بكتابه ورسوله، ومن كفرهم [ ص: 210 ] الذين يستحقون العقوبة عليه، ما لم نعلمه من حال أولئك.
وإن كان أولئك قد بلغهم نبوة بعض الأنبياء، وأرسل إليهم رسول، فليس هو مثل محمد صلى الله عليه وسلم، بل نعلم قطعا أنهم لم يأتهم كتاب مثل القرآن، ولا رسول مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شريعة كشريعته.
فالقائل بذلك مناقض لأخباره وأخبار وكل من علم حاله يعلم بالاضطرار من دينه أنه أخبر أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه خالق كل شيء، وأن هذه الأفلاك ليست قديمة أزلية، موسى وغيرهما من المرسلين، مناقضة لا يتمارى فيها من له معرفة بذلك، وأي هذين الوجهين اختاره السالك فما فيه مختار.
وأصل هذا الضلال جهلهم بحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصرهم لما يظنونه جاء به بما يظنونه من المعقول، ومعارضتهم لما يعلم أنه جاء به بما يظنونه من المعقول، وتوهمهم تعارض صحيح المنقول وصريح المعقول، وهذا هو الكلام الذي عابه السلف والأئمة.