قلت: فهذا الرجل مع أنه من أعيان الفلاسفة المعظمين لطريقتهم، المعتنين بطريقة الفلاسفة المشائين، كأرسطو وأتباعه، يبين أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم، من طريقة الأعراض ونحوها، وأن والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة، والطرق التي لأولئك، هي مع طولها وصعوبتها، لا تفيد العلم لا للعامة ولا للخاصة. الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلم للعامة وللخاصة،
هذا مع أنه يقدر القرآن قدره، ولم يستوعب أنواع الطرق التي في القرآن، فإن القرآن قد اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق وأكمل الطرق، كما قد بسط في موضعه.
والذي قاله من أن هذه الطرق المعتزلية، كطريقة الأعراض المبنية على امتناع حوادث لا أول لها، لم يبعث الرسول بدعوة الخلق إليها، ولا كان سلف الأمة يتوسلون بها إلى معرفة الله -هو أمر معلوم بالاضطرار لكل من كان عالما بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والسلف، ولكل من تدبر القرآن والحديث.
وكل متكلم فاضل، وغيره، يعلم ذلك، كما تقدم كلام كالأشعري الأشعري.
وأما كون هذه الطرق المعتزلية -كطريقة الأعراض والتركيب والاختصاص- هي برهانية أو ليست برهانية، وهي تفيد العلم أو لا [ ص: 334 ] تفيده، فهذا مما يعلم بنظر العقل الصريح، فمن كان ذكيا طالبا للحق، عرف الحق في ذلك.
ولنا مقصودان: أحدهما: أن ما به يعلم ثبوت الصانع وصدق رسوله، لا يتوقف على هذه الطرق المعتزلية الجهمية. وهذه الطرق هي التي يقال: إنها عارضت الأدلة الشرعية، ويقال: إن القدح فيها قدح في أصل الشرع، فإذا تبين أنها ليست أصلا للعلم بالشرع كما أنها ليست أصلا لثبوته في نفسه بالاتفاق، بطل قول من يزعم أن القدح في هذه العقليات قدح في أصل الشرع، وهو المطلوب.