ثم تكلم على الصفات الثبوتية فقال: الفصل الثالث في الصفات: أما الأوصاف التي صرح الكتاب العزيز بوصف الصانع لوجود العالم بها، فهي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان، وهي سبعة: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام.
أما العلم فقد نبه الكتاب على وجه الدلالة عليه، في قوله تعالى: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [سورة الملك: 14].
ووجه الدلالة: أن المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه، أعني كون صنع بعضها من أجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع، أنه لم يحدث عن صانع هو طبيعة، وإنما وجدت عن صانع رتب ما قبل الغاية لأجل الغاية فوجب أن يكون عالما به.
مثال ذلك: إن الإنسان إذا نظر إلى البيت فأدرك أن الأساس إنما [ ص: 380 ] صنع من أجل الحائط وأن الحائط من أجل السقف -تبين أن البيت إنما وجد عن فاعل عالم بصناعة البناء، وهذه الصفة هي صفة قديمة، إذ كان لا يجوز عليه أن يتصف بها وقتا ما.
لكن ليس ينبغي أن نتعمق في هذا فنقول ما يقوله المتكلمون: إنه يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم، فإنه يلزم على هذا أن يكون العلم بالمحدث في وقت وجوده وعدمه علما واحدا.
وهذا أمر غير معقول؛ إذ كان العلم واجبا أن يكون تابعا للموجود. ولما كان الموجود تارة يوجد فعلا، وتارة يوجد قوة، وجب أن يكون العلم بالوجودين مختلفا؛ إذ كان في وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل.
وهذا -يعني قول المتكلمين- شيء لم يصرح الشرع به، بل الذي صرح به خلافه، وهو أنه يعلم المحدثات حين حدوثها.
كما قال تعالى: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [سورة الأنعام: 59]. [ ص: 381 ]
فينبغي أن يوضع في الشرع أنه عالم بالشيء قبل أن يكون على أنه سيكون وعالم بالشيء إذا كان على أنه قد كان، وعالم بما تلف أنه تلف في وقت تلافه. وهذا هو الذي تقتضيه أصول الشرع.
وإنما كان هكذا لأن الجمهور لا يفهمون من العالم في الشاهد غير هذا المعنى، وليس عند المتكلمين برهان يوجب أن يكون بغير هذه الصفة، إلا أنهم يقولون: إن العلم المتغير بتغير المعلومات الموجودات هو محدث، والباري تعالى لا يقوم به حادث؛ لأن ما ينفك عن الحوادث، زعموا أنه حادث.
قال: (وقد بينا نحن كذب هذه المقدمة، فإذا: الواجب أن تقرر هذه القاعدة على ما وردت، ولا يقال: إنه يعلم حدوث الحادثات وفساد الفاسدات، لا بعلم محدث ولا بعلم قديم، فإن هذه بدعة في الإسلام وما كان ربك نسيا [سورة مريم: 64]).
قال: (والذي يقال للخواص: إن العلم القديم لا يشبه علم [ ص: 382 ] الإنسان المحدث، فالذي يدركه الإنسان من تغاير العلم المحدث بالماضي والمستقبل والحاضر هو شيء يخص العلم المحدث، وأما العلم القديم فيجب فيه اتحاد هذه العلوم؛ لأن انتفاء العلم عنه بما يحدثه من هذه الموجودات الثلاثة محال، فقد وقع اليقين بعلمه سبحانه بها، وانتفى التكييف؛ إذ التكييف يوجب تشبيه العلم القديم بالمحدث).
قلت: هذا الكلام من جنس ما حكاه عن المتكلمين، فإنه إذا اتحد في العلم القديم العلم بالماضي والحاضر والمستقبل، ولم يكن هذا مغايرا لهذا، كان العلم بالموجود حال وجوده وحال عدمه واحدا، وهذا مناقض لما تقدم من قوله: (يجب أن يكون العلم بالموجودين مختلفا).
غاية ما في هذا الباب أن هذا الرجل يقول: إن عدم التغاير هو ثابت في العلم القديم دون المحدث. ولا ريب أن أولئك المتكلمين يقولون هذا، ولكن يقولون: ولو فرض بقاء العلم الحادث لكان حكمه حكم القديم، ويقولون: إن هذا من باب حدوث النسب والإضافات، التي لا توجب حدوث المنسوب المضاف، كالتيامن والتياسر.
وهكذا هذا يقول: إنما تتجدد النسب والإضافات، وقد ذكر ذلك في مقالة له في العلم، لكن المتكلمون خير منه؛ لأنهم يقولون بعلمها [ ص: 383 ] بعد وجودها: إما بعلم زائد عند بعضهم، وإما بذلك الأول عند بعضهم.
وأما هذا فلا يثبت إلا العلم الذي هو سبب وجودهما. كما سيأتي كلامه. وهذا عندهم حكم يعم الواجب والقديم. وهذا يقول: بل ذلك حكم يخص المحدث. وهو لم يأت على الفرق بحجة إلا مجرد الدعوى.
وقد بين ذلك في كلام أفرده في مسألة العلم، وأراد أن ينتصر بذلك للفلاسفة الذين قيل عنهم: إنهم يقولون: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي، فذكر أنهم يقولون: إنه يعلم الجزئيات، لكن على هذا الوجه.