ولهذا خاطبني بعض الأعيان من الفضلاء المتفلسفين وأخذ يقول: إن
الفلاسفة يوحدون وأنهم من أعظم الناس توحيدا ويفضلهم على النصارى في التوحيد؛ فبينت له أن الأمر ليس كذلك بل النصارى في التوحيد خير منهم وأنهم مشركون
[ ص: 143 ] لا موحدون، فقلت:
الفلاسفة الذين تذكرهم إما مشركون يوجبون الشرك ويوالون عليه ويعادون، وإما صابئون يسوغون الشرك ويجوزون عبادة ما سوى الله، وكتبهم مشحونة بهذا؛ ولهذا كان أحسن أحوالهم أن يكونوا صابئة أو هم علماء
الصابئة، وهل كان
نمرود وقومه
وفرعون وقومه وغير هؤلاء إلا منهم؟! وهل عبدت الكواكب وبنيت لها الهياكل وأصنامها إلا برأي هؤلاء المتفلسفة؟! بل وهل عبد الصالحون وعكف على قبورهم ومثلت صورهم إلا بآرائهم؟! حتى الذين كانوا متظاهرين بالإسلام منهم قد صنفوا في الإشراك بالله وعبادة الكواكب والأصنام وذكروا ما في هذا الشرك من الفوائد وتحصيل المقاصد.
وبالاضطرار يعلم من عرف دين الرسل
محمد وغيره أنهم إنما بعثوا بالنهي عن هذا الإشراك وجميع الرسل بعثوا بذلك، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=36ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل 36] .
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=45واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [الزخرف 45] .
وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=25وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء 25].
وقد اتفق المسلمون على أن
nindex.php?page=treesubj&link=29785دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى خير من دين من لا كتاب له من المشركين والصابئين [ ص: 144 ] وغيرهم.
والعلماء على تنوع أصنافهم من
الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأرباب المقالات وإن اختلفوا في
الصابئين فلتنوعهم؛ ولهذا كان
للفقهاء فيهم طريقان:
أحدهما أن في كونهم من أهل الكتاب قولين
nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد.
والطريق الثاني: أنهم صنفان؛ فمن تدين منهم بدين أهل الكتاب كان منهم وإلا فلا، هذا هو المختار عندهم.
[ ص: 145 ] وأما الشرك الذي في النصارى فإنما ابتدعوه تشبها بأولئك فكان فيهم قليل من شرك أولئك، قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=30وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل [التوبة 30] كالذين قالوا: الملائكة أولاد الله كما يقوله هؤلاء المتفلسفة الصابئون؛ فإنهم كانوا قبل النصارى.
قلت: وأما التوحيد الذي يذكر عن
الفلاسفة من نفي الصفات فهو مثل تسمية
المعتزلة لما يقولونه توحيدا، وهذا في التحقيق تعطيل مستلزم للتمثيل والإشراك، وأما النصارى فهم لا يقولون عن ثم إلهين متباينين بل يقولون قولا متناقضا؛ حيث يجعلون الثلاثة واحدا ويجعلون الواحد هو المتحد
[ ص: 146 ] بالمسيح دون غيره مع عدم إمكان تميز واحد عن غيره، وهذا الكفر دون كفر
الفلاسفة بكثير، وتكلمت في ذلك بكلام بعد عهدي به، وفساد هذا وتناقضه أعظم، حتى لقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي قول اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام
الجهمية.
وهذا يتبين بما نقوله وهو أن ما فسر به هؤلاء اسم الواحد من هذه التفاسير التي لا أصل لها في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة باطل بلا ريب شرعا وعقلا ولغة.
وَلِهَذَا خَاطَبَنِي بَعْضُ الْأَعْيَانِ مِنَ الْفُضَلَاءِ الْمُتَفَلْسِفِينَ وَأَخَذَ يَقُولُ: إِنَّ
الْفَلَاسِفَةَ يُوَحِّدُونَ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَوْحِيدًا وَيُفَضِّلُهُمْ عَلَى النَّصَارَى فِي التَّوْحِيدِ؛ فَبَيَّنْتُ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ النَّصَارَى فِي التَّوْحِيدِ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ
[ ص: 143 ] لَا مُوَحِّدُونَ، فَقُلْتُ:
الْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ تَذْكُرُهُمْ إِمَّا مُشْرِكُونَ يُوجِبُونَ الشِّرْكَ وَيُوَالُونَ عَلَيْهِ وَيُعَادُونَ، وَإِمَّا صَابِئُونَ يُسَوِّغُونَ الشِّرْكَ وَيُجَوِّزُونَ عِبَادَةَ مَا سِوَى اللَّهِ، وَكُتُبُهُمْ مَشْحُونَةٌ بِهَذَا؛ وَلِهَذَا كَانَ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَكُونُوا صَابِئَةً أَوْ هُمْ عُلَمَاءُ
الصَّابِئَةِ، وَهَلْ كَانَ
نَمْرُودُ وَقَوْمُهُ
وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا مِنْهُمْ؟! وَهَلْ عُبِدَتِ الْكَوَاكِبُ وَبُنِيَتْ لَهَا الْهَيَاكِلُ وَأَصْنَامُهَا إِلَّا بِرَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ؟! بَلْ وَهَلْ عُبِدَ الصَّالِحُونَ وَعُكِفَ عَلَى قُبُورِهِمْ وَمُثِّلَتْ صُوَرُهُمْ إِلَّا بِآرَائِهِمْ؟! حَتَّى الَّذِينَ كَانُوا مُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ مِنْهُمْ قَدْ صَنَّفُوا فِي الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَذَكَرُوا مَا فِي هَذَا الشِّرْكِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَتَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ.
وَبِالِاضْطِرَارِ يَعْلَمُ مَنْ عَرَفَ دِينَ الرُّسُلِ
مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا بُعِثُوا بِالنَّهْيِ عَنْ هَذَا الْإِشْرَاكِ وَجَمِيعُ الرُّسُلِ بُعِثُوا بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=36وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النَّحْلُ 36] .
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=45وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مَنْ قَبْلِكَ مَنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مَنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزُّخْرُفُ 45] .
وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=25وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءُ 25].
وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29785دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى خَيْرٌ مِنْ دِينِ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ [ ص: 144 ] وَغَيْرِهِمْ.
وَالْعُلَمَاءُ عَلَى تَنَوُّعِ أَصْنَافِهِمْ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَأَرْبَابِ الْمَقَالَاتِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي
الصَّابِئِينَ فَلِتَنَوُّعِهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ
لِلْفُقَهَاءِ فِيهِمْ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ فِي كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَوْلَيْنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790لِلشَّافِعِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدَ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ صِنْفَانِ؛ فَمَنْ تَدَيَّنَ مِنْهُمْ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَلَا، هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ.
[ ص: 145 ] وَأَمَّا الشِّرْكُ الَّذِي فِي النَّصَارَى فَإِنَّمَا ابْتَدَعُوهُ تَشَبُّهًا بِأُولَئِكَ فَكَانَ فِيهِمْ قَلِيلٌ مِنْ شِرْكِ أُولَئِكَ، قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=30وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التَّوْبَةُ 30] كَالَّذِينِ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ أَوْلَادُ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الصَّابِئُونَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ النَّصَارَى.
قُلْتُ: وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الَّذِي يُذْكَرُ عَنِ
الْفَلَاسِفَةِ مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ فَهُوَ مِثْلُ تَسْمِيَةِ
الْمُعْتَزِلَةِ لِمَا يَقُولُونَهُ تَوْحِيدًا، وَهَذَا فِي التَّحْقِيقِ تَعْطِيلٌ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّمْثِيلِ وَالْإِشْرَاكِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ لَا يَقُولُونَ عَنْ ثَمَّ إِلَهَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ بَلْ يَقُولُونَ قَوْلًا مُتَنَاقِضًا؛ حَيْثُ يَجْعَلُونَ الثَّلَاثَةَ وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ هُوَ الْمُتَّحِدُ
[ ص: 146 ] بِالْمَسِيحِ دُونَ غَيْرِهِ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ تَمَيُّزِ وَاحِدٍ عَنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْكُفْرُ دُونَ كُفْرِ
الْفَلَاسِفَةِ بِكَثِيرٍ، وَتَكَلَّمْتُ فِي ذَلِكَ بِكَلَامٍ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ، وَفَسَادُ هَذَا وَتَنَاقُضُهُ أَعْظَمُ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16418عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّا لِنَحْكِيَ قَوْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ
الْجَهْمِيَّةِ.
وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِمَا نَقُولُهُ وَهُوَ أَنَّ مَا فَسَّرَ بِهِ هَؤُلَاءِ اسْمَ الْوَاحِدِ مِنْ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ شَرْعًا وَعَقْلًا وَلُغَةً.