الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم فألفاظهم فيها أنه فوق العرش، وفيها إثبات الصفات الخبرية التي يعبر هؤلاء المتكلمون عنها بأنها أبعاض وأنها تقتضي التركيب والانقسام، وقد ثبت عن أئمة السلف أنهم قالوا: لله حد، وأن ذلك يعلمه غيره وأنه مباين لخلقه، وفي ذلك لأهل الحديث والسنة [ ص: 592 ] مصنفات، وهذا هو معنى التحيز عند من تكلم به من الأولين، فإن هؤلاء كثيرا ما يكون النزاع بينهم لفظيا، لكن أهل السنة والحديث فيهم رعاية لألفاظ النصوص وألفاظ السلف، وكثير من مبتغي ذلك يؤمن بألفاظ لا يفهم معانيها وقد يؤمن بلفظ ويكذب بمعنى آخر غايته أن يكون فيه بعض معنى اللفظ الذي آمن به؛ ولهذا يطعن كثير من أهل الكلام في نحو هؤلاء الذين يتكلمون بألفاظ متناقضة لا يفهمون التناقض فيها، لكن وجود هذا وأمثاله في أهل الكلام أكثر منه في أهل الحديث بأضعاف [ ص: 593 ] مضاعفة، كما قد بيناه في غير هذا الكتاب.

وإذا كان كذلك فالجواب عن هذه الحجة وأمثالها مبني على مقامين:

المقام الأول: مقام من يقول إنه نفسه تعالى فوق العرش، ويقول إنه ليس بجسم ولا متحيز، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري وكثير من الصفاتية فقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم، وهو كثير فيهم فاش ظاهر منتشر، والمنازعون لهم في كونه فوق العرش كالرازي ومتأخري الأشعرية وكالمعتزلة يدعون أن هذا تناقض مخالف للضرورة العقلية. وقد تكلمنا بين الطائفتين فيما تقدم بما ينبه على حقيقة الأمر، وتبين أن الأولين أعظم مخالفة للضرورة العقلية وأعظم تناقضا من هؤلاء، وأن هؤلاء لا يسع أحدهم في نظره ولا مناظرته أن يوافق أولئك على ما سلكوه من النفي فرارا مما ألزموه إياه من التناقض؛ لأنه يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فيكون الذي وقع فيه من [ ص: 594 ] التناقض ومخالفة الفطرة والضرورة العقلية أعظم مما فر منه، مع ما في ذلك من مخالفة القرآن والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وإن كان قد يضطر إلى نوع باطل في الأول فإنه بمنزلة قول الواقف في الرمضاء: أنا أجد حرارتها وألمها، فيقال له: النار التي فررت إليها أعظم حرارة وألما وإن كنت لا تجد حين وقوفك على الرمضاء بل تجدها حين تباشرها، فيكون قد فر من نوع تناقض وخلاف بعض الضرورة، فوقع في أنواع من التناقضات ومخالفة الضرورات، وبقي ما امتاز به الأول في كلامه من الزندقة والإلحاد ومشاقة الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - واتباع غير سبيل المؤمنين: زيادة على ذلك؛ ولهذا كان من هؤلاء المثبتة ممن له في الأمة من الثناء ولسان الصدق ما ليس لمن هو من أولئك، وإن كان قد يذمه من وجه آخر فليس الغرض بيان صوابهم مطلقا، ولكن بيان أن طريقهم أقل [ ص: 595 ] خطأ وطريق الأولين أعظم ضلالة، فهذا أحد المقامين، وقد تقدم بيانه فلا نعيده.

التالي السابق


الخدمات العلمية