مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " وما
nindex.php?page=treesubj&link=3455أكل من الصيد صنفان : دواب وطائر فما أصاب المحرم من الدواب نظر إلى أقرب الأشياء من المقتول شبها من النعم ففدى به وقد حكم
عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم في بلدان مختلفة وأزمان شتى بالمثل من النعم فحكم حاكمهم في النعامة ببدنة وهي لا تسوي بدنة وفي حمار الوحش ببقرة وهو لا يسوي بقرة وفي الضبع بكبش وهو لا يسوي كبشا وفي الغزال بعنز وقد يكون أكثر من ثمنها أضعافا ودونها ومثلها وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة وهما لا يساويان عناقا ولا جفرة فدل ذلك على أنهم نظروا إلى أقرب ما يقتل من الصيد شبها بالبدل من النعم لا بالقيمة ولو حكموا بالقيمة لاختلف لاختلاف الأسعار وتباينها في الأزمان " .
قال
الماوردي : وهذا كما قال : الحيوان كله ضربان : إنسي ووحشي .
فأما الإنسي الأصلي فحكم المحرم فيه كحكم المحل ، وأما الوحشي فضربان : هو مأكول ، وغير مأكول :
فأما غير المأكول فيأتي ، وأما المأكول فضربان : بري وبحري .
فأما البحري فيأتي وأما البري فضربان : دواب وطائر :
[ ص: 291 ] فأما الطائر فيأتي ، وأما الدواب ففيها مثلها من النعم ، وهو أن ينظر أقرب الأشياء من المقتول شبها من النعم فيفتدي به ، وإذا كان كذلك لم يخل من أن يكون قد تقدم للصحابة فيه حكم أم لا .
فإن تقدم حكم الصحابة فيه بشيء فلا اجتهاد لنا فيه ، وحكم الصحابة مقدم على قولنا ، وقال
مالك : لا بد فيه من اجتهاد فقيهين ، وهذا غلط من وجهين :
أحدهما : أن الله تعالى قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يحكم به ذوا عدل منكم فأمر بالرجوع فيه إلى حكم ذوي عدل . وعدالة الصحابة أوكد من عدالتنا : لأنهم شاهدوا الوحي وحضروا التنزيل والتأويل ، وجعلهم صلى الله عليه وسلم كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا : فكان حكمهم أولى من حكمنا .
والثاني : أن الصحابة إذا حكموا بشيء أو حكم بعضهم به وسكت باقوهم عليه صار إجماعا وما انعقد للإجماع عليه فلا يجوز الاجتهاد فيه لجواز أن يؤدي الاجتهاد إلى غير ما انعقد عليه الإجماع وكذا حكم التابعين بعد الصحابة كحكم الصحابة في وجوب اتباعه ، ومنع الاجتهاد فيه .
فأما ما لم يكن للصحابة والتابعين فيه حكم فالواجب أن يرجع فيه إلى اجتهاد فقيهين عدلين ؛ لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يحكم به ذوا عدل منكم وروي أن
قبيصة بن جابر أصاب ظبيا وهو محرم فأتى
عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشاور
عمر عبد الرحمن بن عوف في ذلك ، قال
قبيصة لصاحبيه : والله ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره ، وأحسبني سأذبح ناقتي فسمع
عمر فأقبل عليه ضربا بالدرة ، وقال : تقتل الصيد محرما وتغمص الفتيا ، أما سمعت قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يحكم به ذوا عدل منكم فهذا
عمر وهذا
عبد الرحمن ، ثم أمره بذبح شاة ، معنى قوله : تغمض الفتيا أي : تحتقرها وتتهاون بها ، يقال للرجل إذا كان مطعونا عليه في دين : إنه لمغموص عليه .
قال
الشافعي : ولا يجوز لأحد أن يحكم إلا أن يكون فقيها : لأنه حكم فلم يجز إلا بحكم عدل يجوز حكمه ، فإن كان قاتل الصيد فقيها عدلا جاز أن يكون أحد العدلين المجتهدين ، هذا مذهب
الشافعي ، ومنه وجه آخر لبعض أصحابه : أنه لا يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين المجتهدين : لأنه اجتهاد في بدل متلف فلم يجز الرجوع فيه إلى اجتهاد المتلف كحقوق الآدميين التي ترجع في إتلافها إلى اجتهاد مقومين ولا يجوز أن يكون المتلف أحدهما ، كذلك جزاء الصيد ، وهذا خطأ : لعموم قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يحكم به ذوا عدل منكم ، ولما روينا أيضا عن
عمر أنه قال
لأربد وقد قتل صيدا : احكم ، قال : إني أحكم
[ ص: 292 ] جديا قد جمع الماء والشجر ، قال : فهو كما حكمت ، فأمضى عمر الحكم باجتهاده واجتهاد
أربد ، وقد كان قاتلا ، : وليس يعرف له في الصحابة مخالف ؟ فكان إجماعا ، ولأن الجزاء من حقوق الله تعالى ، وحقوق الله تعالى يجوز الرجوع فيها إلى اجتهاد من عليه الحق ، كالزكوات والكفارات ، وخالفت حقوق الآدميين .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا
nindex.php?page=treesubj&link=3455أُكِلَ مِنَ الصَّيْدِ صِنْفَانِ : دَوَابٌّ وَطَائِرٌ فَمَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ مِنَ الْدَوَابِّ نَظَرَ إِلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَقْتُولِ شَبَهًا مِنَ النَّعَمِ فَفَدَى بِهِ وَقَدْ حَكَمَ
عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرُهُمْ فِي بُلْدَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَزْمَانٍ شَتَّى بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ فَحَكَمَ حَاكِمُهُمْ فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ وَهِيَ لَا تُسَوِّي بَدَنَةً وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بِبَقَرَةٍ وَهُوَ لَا يُسَوِّي بَقَرَةً وَفِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ وَهُوَ لَا يُسَوِّي كَبْشًا وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا أَضْعَافًا وَدُونَهَا وَمِثْلَهَا وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ وَهُمَا لَا يُسَاوِيَانِ عَنَاقًا وَلَا جَفْرَةً فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَقْرَبِ مَا يُقْتَلُ مِنَ الصَّيْدِ شَبَهًا بِالْبَدَلِ مِنَ النَّعَمِ لَا بِالْقِيمَةِ وَلَوْ حَكَمُوا بِالْقِيمَةِ لَاخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ وَتَبَايُنِهَا فِي الْأَزْمَانِ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْحَيَوَانُ كُلُّهُ ضَرْبَانِ : إِنْسِيٌّ وَوَحْشِيٌ .
فَأَمَّا الْإِنْسِيُّ الْأَصْلِيُّ فُحُكْمُ الْمُحْرِمِ فِيهِ كَحُكْمِ الْمُحِلِّ ، وَأَمَّا الْوَحْشِيُّ فَضَرْبَانِ : هُوَ مَأْكُولٌ ، وَغَيْرُ مَأْكُولٍ :
فَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَيَأْتِي ، وَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَضَرْبَانِ : بَرِّيٌّ وَبَحْرِيٌّ .
فَأَمَّا الْبَحْرِيُّ فَيَأْتِي وَأَمَّا الْبَرِّيُّ فَضَرْبَانِ : دَوَابُّ وَطَائِرٌ :
[ ص: 291 ] فَأَمَّا الطَّائِرُ فَيَأْتِي ، وَأَمَّا الدَّوَابُّ فَفِيهَا مِثْلُهَا مِنَ النَّعَمِ ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ أَقْرَبَ الِأَشْيَاءِ مِنَ الْمَقْتُولِ شَبَهًا مِنَ النَّعَمِ فَيَفْتَدِي بِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ لِلصَّحَابَةِ فِيهِ حُكْمٌ أَمْ لَا .
فَإِنْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الصَّحَابَةِ فِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا اجْتِهَادَ لَنَا فِيهِ ، وَحُكْمُ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِنَا ، وَقَالَ
مَالِكٌ : لَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اجْتِهَادِ فَقِيهَيْنِ ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فَأَمَرَ بِالرُّجُوعِ فِيهِ إِلَى حُكْمِ ذَوَيْ عَدْلٍ . وَعَدَالَةُ الصَّحَابَةِ أَوْكَدُ مِنْ عَدَالَتِنَا : لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْوَحْيَ وَحَضَرُوا التَّنْزِيلَ وَالتَّأْوِيلَ ، وَجَعَلَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْنَا اهْتَدَيْنَا : فَكَانَ حُكْمُهُمْ أَوْلَى مِنْ حُكْمِنَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا حَكَمُوا بِشَيْءٍ أَوْ حَكَمَ بَعْضُهُمْ بِهِ وَسَكَتَ بَاقُوهُمْ عَلَيْهِ صَارَ إِجْمَاعًا وَمَا انْعَقَدَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يُؤَدِّيَ الِاجْتِهَادُ إِلَى غَيْرِ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَكَذَا حُكْمُ التَّابِعِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ كَحُكْمِ الصَّحَابَةِ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ ، وَمَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ .
فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ حُكْمٌ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ فَقِيهَيْنِ عَدْلَيْنِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ وَرُوِيَ أَنَّ
قَبِيصَةَ بْنَ جَابِرٍ أَصَابَ ظَبْيًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَتَى
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَاوَرَ
عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ ، قَالَ
قَبِيصَةُ لِصَاحِبَيْهِ : وَاللَّهِ مَا عَلِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَى سَأَلَ غَيْرَهُ ، وَأَحْسَبُنِي سَأَذْبَحُ نَاقَتِيِ فَسَمِعَ
عُمَرُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضَرْبًا بِالدِّرَّةِ ، وَقَالَ : تَقْتُلُ الصَّيْدَ مُحْرِمًا وَتَغْمُصُ الْفُتْيَا ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فَهَذَا
عُمَرُ وَهَذَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ ، مَعْنَى قَوْلِهِ : تَغْمُضُ الْفُتْيَا أَيْ : تَحْتَقِرُهَا وَتَتَهَاوَنُ بِهَا ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ مَطْعُونًا عَلَيْهِ فِي دِينٍ : إِنَّهُ لِمَغْمُوصٌ عَلَيْهِ .
قَالَ
الشَّافِعِيُّ : وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا : لِأَنَّهُ حُكْمٌ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا بِحُكْمِ عَدْلٍ يَجُوزُ حُكْمُهُ ، فَإِنْ كَانَ قَاتِلُ الصَّيْدِ فَقِيهًا عَدْلًا جَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ الْمُجْتَهِدَيْنِ ، هَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ ، وَمِنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ الْمُجْتَهِدَيْنِ : لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ فِي بَدَلٍ مُتْلَفٍ فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُتْلِفِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي تُرْجَعُ فِي إِتْلَافِهَا إِلَى اجْتِهَادِ مُقَوِّمِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ أَحَدَهُمَا ، كَذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، وَلِمَا رَوَيْنَا أَيْضًا عَنْ
عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ
لَأَرْبَدَ وَقَدْ قَتَلَ صَيْدًا : احْكُمْ ، قَالَ : إِنِّي أَحْكُمُ
[ ص: 292 ] جَدْيًا قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ ، قَالَ : فَهُوَ كَمَا حَكَمْتَ ، فَأَمْضَى عُمَرُ الْحُكْمَ بِاجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادِ
أَرْبَدَ ، وَقَدْ كَانَ قَاتِلًا ، : وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ؟ فَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى اجْتِهَادِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، كَالزَّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَخَالَفَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ .