الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو اشتركوا في قتل صيد لم يكن عليهم إلا جزاء واحد وهو قول ابن عمر " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال : إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فعلى جماعتهم جزاء واحد ، ولو كانوا مائة ، . وهو قول جميع الصحابة وجمهور الفقهاء ، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة وصاحباه : على كل واحد منهم جزاء كامل ، ثم ناقض أبو حنيفة في صيد الحرم فقال : إذا اشترك جماعة في قتل صيد المحرم فعلى جميعهم جزاء واحد ، والكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : هل على كل واحد منهم جزاء كامل أم لا ؟ .

                                                                                                                                            والثاني : هل الجزاء يجري مجرى الكفارات أو ضمان الأموال ، واستدلوا أن على كل واحد منهم جزاء كاملا بقوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] ، فعلق الجزاء على شرط القتل بلفظة " من " ، ولفظة ( من ) إذا علق عليها الجزاء استوى حال الواحد والجماعة في استحقاق ذلك الجزاء كقوله : من دخل داري فله درهم ، فلو دخلها واحد استحق درهما ولو دخلها مائة استحق كل واحد منهم درهما كذلك في جزاء الصيد : ولأن كل واحد منهم هتك حرمة إحرامه بالقتل فوجب أن يلزمه جزاء كامل ، كما لو تفرد بالقتل ، ولأنها كفارة يدخلها الصوم فوجب أن لا ينتقض قياسا على كفارة القتل ، واستدلوا على أن الجزاء يجري مجرى الكفارات دون ضمان الأموال بأن من قتل صيدا لنفسه لزمه الجزاء ، ولو كان يجري مجرى ضمان الأموال سقط عنه الجزاء كسائر أمواله : ألا ترى أن الدية لما كانت جارية مجرى ضمان الأموال سقطت عن السيد في قتل عبده ، ولما كانت الكفارات مخالفة لها لم تسقط الكفارات عن السيد بقتل عبده ، ولأنه لو قتل صيدا مملوكا لزمه الجزاء والقيمة ، فلو كان الجزاء كالقيمة لم يجتمعا ، ولأن الجزاء يدخل فيه [ ص: 321 ] الصوم ، وضمان الأموال لا يدخل فيه الصوم : ولأن ما سوى الجزاء من محظورات الإحرام كفارة فوجب أن يكون الجزاء الذي هو أيضا من محظورات الإحرام كفارة ، والدلالة على أن على جماعتهم جزاء واحدا قوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] ، ومنها دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه علق الجزاء بلفظ ( من ) على شرط القتل ، والشرط إذا علق علمه بلفظ ( من ) إن كان موجودا من كل واحد من الجماعة استحق كل واحد منهم جزاء كاملا كقوله : من دخل داري فله درهم ، فلكل واحد منهم درهم : لأن الدخول موجود من كل واحد منهم ، وإن كان الشرط موجودا من جماعتهم فالجزاء مستحق من جماعتهم دون كل واحد منهم ، كقوله : من جاء بعبدي الآبق فله درهم ، ومن شال الحجر فله درهم ، فإذا اشترك جماعة في شيل الحجر والمجيء بالآبق فالدرهم مستحق بين جماعتهم ، ولا يستحقه كل واحد في شيل الحجر والمجيء بالآبق وجد من جماعتهم دون كل واحد منهم كذلك القتل لما كان موجودا من جماعتهم دون كل واحد منهم وجب أن يكون الجزاء مستحقا بين جماعتهم دون كل واحد منهم ، وفي هذا استدلال وانفصال .

                                                                                                                                            والدليل الثاني من الآية : قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] ، فأوجب في قتل الصيد جزاء وهو مثل المقتول ، ومثل الواحد واحد ، سواء كان القتل من قاتل واحد أو من جماعة ، كما أن مثل العشرة عشرة ، سواء كان القتل من واحد أو من جماعة ، ومن الدلالة عليه : حديثجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الضبع صيد يؤكل وفيه كبش إذا أصابه المحرم فذكر المحرم بالألف واللام المستوعبة للجنس : ثم جعل جميع موجبه الكبش : ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - روي ذلك عنهم في قضيتين منتشرتين :

                                                                                                                                            إحداهما : ما روي أن موالي لابن الزبير أحرموا فمرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها فوقع في أنفسهم ، فأتوا ابن عمر فذكروا ذلك له ، فقال : إني لمعرت بكم : عليكم كبش ، فقالوا : على كل واحد منا ؟ فقال : بل عليكم جميعا ، يعني بقوله : إني لمعرت أي : لمشدد عليكم .

                                                                                                                                            والثانية : ما روي أن محرمين وطئا صيدا بفرسهما فقتلاه فسألا عمر عنه فقال لعبد الرحمن : ما تقول فيه ؟ قال : عليهما شاة ، فقضى عمر عليهما بالشاة ، فكان ذلك مذهب عمر وعبد الرحمن وابن عمر في قضيتين منتشرتين ، وليس لهما في الصحابة مخالف ، ومن طريق الاعتبار أن نقول : لأنه صيد واحد فوجب أن لا يجب بقتله إلا جزاء واحد كالقاتل الواحد ، ولأن كل صيد لو انفرد بقتله كان فيه جزاء واحد فإذا اشترك فيه جماعة كان فيه جزاء واحد كالمحلين إذا اشتركوا في قتل صيد في المحرم ولأن الصيد قد يضمن بالجزاء ويضمن [ ص: 322 ] بالقيمة ، فلما استوى في ضمان القيمة حال الواحد والجماعة وجب أن يستوي في ضمان الجزاء حال الواحد والجماعة .

                                                                                                                                            وتحرير ذلك قياسا : أنه صيد مضمون بالجناية فوجب أن يستوي في جناية الواحد والجماعة كالقيمة ، والدلالة على أن الجزاء يجري مجرى ضمان الأموال دون الكفارات : أن الجزاء قد يختلف باختلاف صغير الصيد وكبيره ، كما يختلف ضمان قيمته باختلاف صغره وكبره ، ولو كان كفارة لاستوى حكمهما في صغار الصيد وكباره كما أن كفارة النفوس تستوي في كبار الآدميين وصغارهم : ولأن الجزاء لو جرى مجرى الكفارة لما كان مضمونا باليد ولكان لا يضمن إلا بالجناية مثل كفارات النفوس ، فلما كان مضمونا باليد والجناية ثبت أن ضمانه ضمان الأموال ؟ ألا ترى أن العبد المغصوب إذا مات في يد غاصبه من غير جناية فضمنه باليد وجب عليه ضمان قيمته ولم تجب عليه كفارة قتله : ولأن الجزاء قد يجب في الجملة والأبعاض ، والكفارة تجب في الجملة ولا تجب في الأبعاض ، فدل على أن ضمانه ضمان الأموال ، فأما الجواب عن الآية فقد مضى .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على المنفرد فقد عارضه قياسا على المنفرد ، ثم نذكر أوصاف علتهم ونعلق عليها ضد حكمهم فنقول : لأنه هتك حرمة إحرامه بالقتل فوجب أن يلزمه قدر ما أتلف كالمنفرد ، على أن المعنى في المنفرد أنه انفرد بقتل صيد كامل : فلذلك لزمه جزاء كامل ، والجماعة إذا اشتركوا في قتل صيد لم ينفرد كل واحد منهم بقتل صيد كامل : فلذلك لم يلزمه جزاء كامل ، وأما قياسهم على كفارة القتل : فقد حكى أبو علي الطبري عن الشافعي : أن على الجماعة إذا اشتركوا في قتل نفس كفارة واحدة ، فإن صح هذا بطل القياس ، والمشهور من مذهب الشافعي : أن على كل واحد كفارة ، فعلى هذا المعنى في كفارة النفوس أنها لا تزيد بالصغر والكبر ، وليس كذلك الجزاء .

                                                                                                                                            وأما قولهم : لو كان الجزاء يجري مجرى ضمان الأموال لم يجب عليه في إتلاف ملكه ، قلنا : إنما لا يجب عليه الضمان مع إتلاف ملكه إذا لم يتعلق به حق لغيره ، فأما إذا تعلق به حق لغيره فإنه يلزمه الضمان بإتلاف ملكه ، كالعبد المرهون ، والصيد قد تعلق به حق لغيره وهم المساكين فلم يسقط عنه الضمان .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إن الجزاء لو كان كالقيمة لم يجتمعا ، فليس بصحيح : لأنهما لا يجتمعان إذا تماثلا ، فأما إذا اختلفا فلا بأس أن يتماثلا ، كالجمع بين زكاة الفطر في الرقيق وبين زكاة القيمة ، وكما يجمع بين العشر والخراج .

                                                                                                                                            وأما قولهم : لو كان كالضمان في الأموال لم يجز فيه الصوم : قلنا : إنما جاز فيه الصوم لأنه ليس بحق آدمي محض ، وإنما يتعلق به حق الله تعالى وحق الآدمي ، فجاز دخول الصوم فيه لتعلق حق الله تعالى به .

                                                                                                                                            [ ص: 323 ] وأما جمعهم بين الجزاء وبين سائر الدماء فالمعنى في سائر الدماء : لأنها لا تختلف صغرا وكبرا ، وليس كذلك الجزاء .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية