الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ومن أدرك عرفة قبل الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج ، واحتج في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك عرفة قبل الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج ( قال ) ومن فاته ذلك فاته الحج فآمره أن يحل بطواف وسعي وحلاق ( قال ) وإن حل بعمل عمرة فليس حجه صار عمرة ، وكيف يصير عمرة وقد ابتدأه حجا ( قال المزني ) إذا كان عمله عنده عمل حج لم يخرج منه إلى عمرة ، فقياس قوله أن يأتي بباقي الحج وهو المبيت بمنى والرمي بها مع الطواف والسعي ، وتأول قول عمر : افعل ما يفعل المعتمر ، إنما أراد أن الطواف والسعي من عمل الحج لا أنها عمرة .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد دللنا على وجوب الوقوف بعرفة ، وذكرنا تحديد زمانه ، وأنه من زوال الشمس اليوم التاسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر ، فمن أدرك الوقوف بعرفة في هذا الزمان ساعة من ليل أو نهار فقد أدرك الحج ، ومن فاته الوقوف بعرفة فيه في هذا الزمان ، فقد فاته الحج ، وتعلق بالقران ثلاثة أحكام :

                                                                                                                                            أحدها : إتمام الأركان .

                                                                                                                                            والثاني : وجوب القضاء .

                                                                                                                                            والثالث : وجوب الفدية ، فأما الحكم الأول وهو إتمام الأركان فعليه أن يأتي بعمل عمرة ليتحلل به من إحرامه ، وذلك طواف وسعي وحلاق ، من غير أن يصير حجه عمرة ، وسقط عنه الرمي والمبيت بمزدلفة ومنى .

                                                                                                                                            وقال المزني ، وأحمد بن حنبل : عليه أن يأتي بباقي الأركان والتوابع ، ولا يسقط عنه الرمي والمبيت بمزدلفة ومنى .

                                                                                                                                            وقال المزني : فهو القياس على مذهب الشافعي ، وقال مالك في إحدى رواياته يكون باقيا على إحرامه حتى يقف بعرفة في العام المقبل ، ويتم حجه .

                                                                                                                                            وقال أبو يوسف : ينقلب حجه فيصير عمرة ، فإذا تحلل من إحرامه بعمل العمرة أجزأته عن عمرة الإسلام ، وبه قال عطاء ، واستدل المزني بأن قال : العجز عن بعض الأركان لا يوجب سقوط غيره من السنن والهيئات ، كالعاجز عن ركن من أركان الصلاة ، واستدل بأن [ ص: 237 ] قال : فوات بعض الأركان لا يبيح التحلل قبل كمال جميع الأركان ، كالعائد إلى بلده قبل الطواف لا يستبيح الإحلال من إحرامه قبل الطواف وكذا تارك الوقوف لا يستبيح التحلل من إحرامه قبل الوقوف ، واستدل أبو يوسف بأن قال : الإحرام لا يصح إلا بنسك من المناسك ليخلص من الإشخاص ، ثم يثبت جواز انتقال الإحرام من شخص إلى شخص غيره ، وهو أن يحرم المعافى عن غيره ، ثم يفسد إحرامه بالوطء ، فينتقل عن غيره ويصير عن نفسه ، كذلك يجوز انتقال الإحرام من نسك إلى نسك غيره .

                                                                                                                                            والدلالة على جميعهم إجماع الصحابة ، وهو ما روى سليمان بن يسار أن أبا أيوب خرج حاجا حتى إذا كان بالبادية من طريق مكة أضل رواحله ، ثم إنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يوم النحر فذكر ذلك له ، فقال : اصنع كما يصنع المعتمر ، ثم قد حللت ، فإذا أدركت الحج من قابل فاحجج وأهد ما استيسر من الهدي .

                                                                                                                                            وروي عنه أنه قال لهبار بن الأسود مثله ، وروى نافع عن ابن عمر أنه قال : من فاته الحج فليطف ويسع ، وليحلق ، وليحج من قابل ، وليهد في حجه .

                                                                                                                                            وروي مثله عن زيد بن ثابت ، وليس لهؤلاء الثلاثة من الصحابة مخالف فكان إجماعا ، فبطل به قول المزني في إيجاب الرمي والمبيت بمزدلفة ومنى : لأنهم لم يوجبوه ، وبطل به قول مالك حين أوجب عليه البقاء على إحرامه ؛ لأنهم أمروا بالتحلل وأوجبوه ، وبطل به قول أبي يوسف : لأن عمر قال اصنع ما يصنع المعتمر ، وقال ابن عمر : فليطف ويسع ويحلق ، فأمره أن يفعل مثل فعل المعتمر ، فدل على أنه ليس بمعتمر : لأن مثل العمرة غير العمرة ، ثم يدل على المزني أن الرمي والمبيت من توابع الوقوف ، بدليل سقوطه في العمرة : لأنه ليس فيها وقوف ومن فاته الوقوف سقط عنه ، فوجب أن يسقط حكم توابعه .

                                                                                                                                            وتحرير ذلك قياسا أنه نسك عري عن الوقوف ، فوجب أن يسقط فيه الرمي والمبيت كالعمرة ، ثم يدل على مالك أن الوقوف معظم الحج : لأن إدراك الحج متعلق بإدراكه ، وفوات الحج مقرن بفواته ، فلو كان بفوات الوقوف باقيا على إحرامه ، لم يكن موصوفا بفوات الحج ، وفي إجماعهم على فوات الحج دليل على أنه يتحلل من إحرامه بالحج ، ثم يدل على أبي يوسف أن النسك نسكان ، حج وعمرة ، فلما لم يجز انتقال العمرة إلى الحج بحال ، لم يجز انتقال الحج إلى العمرة بحال .

                                                                                                                                            وتحرير ذلك قياسا أن نقول : لأنه إحرام انعقد بنسك فوجب أن لا ينتقل إلى غيره كالإحرام بالعمرة ، فأما ما استدل به المزني من الصلاة ، فأما ما لم يكن عجزه عن بعض أركانها مسقطا لشيء من سننها وهيئاتها ؛ لأنه ينتقل عما عجز عنه إلى بدل يقوم مقامه ، كان ما عجز [ ص: 238 ] عنه تبعا لبدله فلم يسقط عنه ، وليس كذلك الوقوف في الحج : لأنه لا بدل له ، فسقط عنه توابعه بفواته ، فأما ما استدل به مالك من استدامة إحرامه مع بقاء الطواف فكذلك مع الوقوف ، فإنما كان مستديما لإحرامه مع بقاء الطواف ؛ لأنه مدرك للحج بمكة ، فعل الطواف متى شاء وليس ، كذلك حال الوقوف لفوات الحج به ، وأنه لا يقدر على الإتيان به إلا في وقته فافترقا ، وأما ما استدل به أبو يوسف من أنه لما جاز انتقال الإحرام من شهر إلى شهر ، جاز انتقاله من نسك إلى نسك ، قيل إنما جاز انتقاله من شخص إلى شخص : لأنه لم يعين الإحرام لشخص صح ، فجاز أن ينتقل في الحكم من شهر إلى شهر ، والإحرام لا به في تعيينه بنسك ، فلم يجز أن ينتقل بعد التعيين من نسك إلى نسك ، فإن قيل فقد نقلتم الإحرام من نسك إلى نسك ، وهو فيمن أحرم بالحج قبل أشهره ، قلتم إن إحرامه بالحج قد صار عمرة ؛ لوقوعه في غير أشهر الحج ، قيل : إنما منعنا من انتقال الإحرام المنعقد بنسك إلى نسك آخر ، والمحرم بالحج في غير أشهره ، انعقد إحرامه بعمرة إلا أنه انتقل بعد إحرامه بالحج إلى عمرة ، فإذا ثبت هذا فعليه أن يطوف ويسعى ويحلق ، فإن كان معه هدي نحره قبل حلاقه ، فإن ترك الحلاق فهل يتحلل بالطواف والسعي أم لا ، على قولين : إن قيل إن الحلق نسك كان على إحرامه حتى يحلق ويقصر ، وإن قيل : إنه إباحة بعد حظر فقد حل من إحرامه بالطواف والسعي ، فعلى هذا لو كان قد طاف وسعى قبل فوات الوقوف بعرفة أجزأه السعي ، ولزمه إعادة الطواف بعد الفوات : لأن تحلله بعد الفوات لا يقع إلا به ، فأما السعي فمجزئ ، وإنما قال الشافعي : ها هنا طواف وسعي لمن لم يكن قد سعى قبل الفوات ، وقد بين الشافعي ذلك في كتاب الإملاء ، فلو أراد استدامة إحرامه إلى العام الثاني لم يجز : لأنه يصير محرما بالحج في غير أشهره ، والبقاء على الإحرام بالحج في غير أشهره كابتداء الإحرام بالحج في غير أشهره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية