الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا أحرم العبد بغير إذن سيده أحببت أن يدعه ، فإن لم يفعل فله حبسه ، وفيه قولان : أحدهما تقوم الشاة دراهم ، والدراهم طعاما ، ثم يصوم عن كل مد يوما ثم يحل ، والآخر لا شيء عليه حتى يعتق فيكون عليه شاة ( قال المزني ) أولى بقوله وأشبه عندي بمذهبه أن يحل ولا يظلم مولاه بغيبته ومنع خدمته ، فإذا أعتق أهراق دما في معناه " .

                                                                                                                                            [ ص: 250 ] قال الماوردي : وهذا كما قال ليس للعبد أن يحرم بحجة ولا عمرة إلا بإذن سيده ؛ لأن العبد مملوك التصرف ، فلم يكن له تفويت ذلك بالإحرام ، فإن أذن له السيد في الإحرام جاز له أن يحرم ولم يلزمه أن يحرم ؛ لأنه تطوع لا يرتفق السيد به ، فلم يجبر العبد عليه ، وغلط بعض أصحابنا فقال : للسيد أن يجبر عبده على الإحرام ، وعلى العبد امتثال أمره فيه ؛ لأن فوات حجه عائد إليه ، فجاز إجباره عليه ، كما يجب على غيره من الأعمال التي يعود عليه نفعها وهذا غلط ؛ لأن الحج عبادة لا تصح إلا باعتقاد ، فإذا لم تجب بالشرع ، لم تجب بإجبار السيد كالصلاة والصيام الذي لا يجوز للسيد إجبار عبده على التطوع بهما ، وإن عاد إليه فواتهما ، فإن أحرم بإذنه وجب عليه تمكينه منه ، فإن أذن له بالعمرة لم يكن له أن يحرم بالحج ؛ لأنه أكثر عملا ، وإن أذن له بالحج جاز أن يحرم بالعمرة ؛ لأنها بعض أعمال الحج ، فإذا أحل من العمرة لم يكن له الإحرام بالحج إلا بإذن مستأنف ، فأما إذا أحرم العبد بغير إذن سيده ، فإحرامه صحيح وللسيد الخيار بين منعه أو تركه .

                                                                                                                                            وقال داود بن علي : إحرامه بغير إذن السيد باطل لقوله صلى الله عليه وسلم : كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ؛ ولأن كل عقد ليس للعبد فعله إلا بإذن السيد فهو باطل إذا عقده بغير إذن السيد كالبيع والنكاح : ولأن العبد ممنوع من الإحرام إلا بإذن سيده ، كما أن الصبي ممنوع من الإحرام إلا بإذن وليه ، ثم ثبت أن إحرام الصبي بغير إذن وليه باطل لا يقف على إجازته ، فكذلك إحرام العبد بغير إذن سيده باطل لا يقف على إجازته .

                                                                                                                                            والدلالة عليه قوله تعالى : الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ البقرة : 197 ] فكان على عمومه في الحر والعبد ؛ ولأن عبادات الأبدان لا يفتقر انعقادها إلى إذن السيد فإن استحق المنع منها كالصلاة والصيام إذا دخل فيه العبد تطوعا بغير إذن السيد كان منعقدا ، وإن كان للسيد أن يمنعه ، كذلك الحج بل حاله أوكد ؛ ولأن الإحرام اعتقاد بالقلب واعتقاد القلب لا يقف على إجازة سيده كالإسلام والكفر فكذلك الإحرام .

                                                                                                                                            فأما الخبر فمتروك الدلالة .

                                                                                                                                            وأما البيع والنكاح فالفرق بينهما وبين الحج من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ذلك مما لا يقع موقوفا فجاز أن يكون باطلا بغير إذن السيد ، والإحرام يصح أن يكون موقوفا فجاز أن يصح إن كان بغير إذن السيد .

                                                                                                                                            والثاني : أن النكاح عقد بالقول والفعل ، فجاز أن يبطل بغير إذن السيد ؛ لأنه يملك فعل عبده ، والإحرام اعتقاد فجاز أن ينعقد بغير إذن السيد ؛ لأنه لا يملك اعتقاد عبده ، وأما الصبي ففي إحرامه بغير إذن وليه وجهان لأصحابنا :

                                                                                                                                            [ ص: 251 ] أحدهما : يصح ، فعلى هذا بطل الاعتراض به .

                                                                                                                                            والثاني : لا يصح ، فعلى هذا الفرق بينه وبين العبد أن الإحرام اعتقاد والعبد من أهل الاعتقاد فصح بغير إذن سيده ، والصبي ليس من أهل الاعتقاد فلم يصح أن يكون محرما إلا باعتقاد وليه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية