الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود هنا أن القدرية لما كانت تزعم أن ما يحصل من الإيمان في القلب ليس من فعل الله، بل هو من فعل العبد فقط، وأنه خارج عن مقدور الله وعن ما من الله به على العبد - كان ما ذكر ردا عليهم.

وأما من أقر بأن ذلك من فضل الله وإحسانه، وجعل ما يحصل بالنظر والاستدلال من فضل الله وإحسانه، فلا حجة عليه إذا قال: إنه بنظر العقل واستدلاله قد يهدي الله العبد ويجعل في قلبه علما نافعا.

وقد تنازع أهل الإثبات في اقتضاء النظر الصحيح للعلم: هل هو [ ص: 34 ] بطريق التضمن الذي يمتنع انفكاكه عنه عقلا؟ أو بطريق إجراء الله العادة التي يمكن نقضها؟ وبكل حالفالعبد مفتقر إلى الله في أن يهديه ويلهمه رشده.

وإذا حصل له علم بدليل عقلي، فهو مفتقر إلى الله في أن يحدث في قلبه تصور مقدمات ذلك الدليل ويجمعها في قلبه، ثم يحدث العلم الذي حصل بها.

وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظرا ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرا ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به.

فمن اتكل على نظره واستدلاله، أو عقله ومعرفته، خذل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيرا ما يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ويقول في يمينه: «لا ومقلب القلوب». ويقول: «والذي نفسي بيده» ويقول: «ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه». [ ص: 35 ]

وكان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». وكان يقول هو وأصحابه في ارتجازهم:


اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا     فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا

وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال، فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يحبب إليه الإيمان ويبغض إليه الكفر، وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده، فيكون من المعاندين الجاحدين.

قال تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [سورة النمل: 14].

وقال: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [سورة البقرة: 146] ، فكما أن الإنسان فيما يكتسبه من الأعمال مفتقر إلى الله محتاج إلى معونته، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، كذلك فيما يكتسبه من العلوم، ومع هذا فليس لأحد حجة على الله في أن يدع ما أمر به من الأسباب التي يحصل بها العلم النافع والعمل الصالح. ولكن الشأن في [ ص: 36 ] تعيين الأسباب، فيذم من المعتزلة أنهم أحدثوا طرقا زعموا أن معرفة الله لا تحصل إلا بها، وزعموا أن المعرفة تجب بها بفعل العبد لا بفعل الله.

ومن الناس من قد يوافقهم على إحدى البدعتين دون الأخرى. وكثير من الناس قد اختلف كلامه في هذا الأصل، تارة يقول: إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، ويجعل أول الواجبات النظر أو المعرفة الحاصلة به، وقد يعين طريق النظر، كما فعل ذلك القاضي أبي يعلى في المعتمد موافقة للقاضي أبي بكر وأمثاله من الموافقين في هذا الأصل للمعتزلة، وكما فعل ابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم.

ومن توابع ذلك أن النظر المفيد للعلم لا يكون إلا نظرا في دليل. والنظر الذي يوجبونه يكون نظرا فيما يعلم الناظر أنه دليل؛ لأنه لو علم قبل النظر أنه دليل لعلم ثبوت المدلول، وإذا كان عالما به لم يحتج إلى الاستدلال عليه، فيوجبون سلوك طريق لا يعلم السالك أنه طريق.

التالي السابق


الخدمات العلمية