الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال: (وأما المقدمة الثانية، وهي القائلة إن جميع الأعراض محدثة، فهي مقدمة مشكوك فيها، وخفاء هذا المعنى فيها كخفائه في الجسم. وذلك أنا شاهدنا بعض الأجسام محدثة وكذلك بعض الأعراض، فلا فرق في النقلة من الشاهد في كليهما إلى الغائب، فإن كان واجبا في الأعراض أن ينقل حكم الشاهد منها إلى الغائب -أعني أن [ ص: 82 ] نحكم بالحدوث على ما لم نشاهده منها قياسا على ما شاهدنا- فقد يجب أن يفعل مثل ذلك في الأجسام، ونستغني عن الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام. وذلك أن الجسم السماوي -وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد- الشك في حدوث أعراضه كالشك في حدوثه نفسه؛ لأنه لم يحس حدوثه، لا هو ولا أعراضه. ولذلك ينبغي أن نجعل الفحص عنه من أمر حركته، وهي الطريق التي تقضي بالسالكين إلى معرفة الله تبارك وتعالى بيقين).

قال: (وهي طريق الخواص، وهي التي خص بها إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [سورة الأنعام: 75] لأن الشك كله إنما هو في الأجرام السماوية، وأكثر النظار إنما انتهوا إليها، واعتقدوا أنها آلهة).

قلت: قول هذا وأمثاله: إن إبراهيم استدل بطريق الحركة، هو من جنس قول أهل الكلام الذين يذمهم أصحابه وسلف الأمة: إن إبراهيم استدل بطريق الحركة. لكن هو يزعم أن طريقة الخواص: [ ص: 83 ] طريقة أرسطو وأصحابه، حيث استدلوا بالحركة على أن حركة الفلك اختيارية، وأنه يتحرك للتشبه بجوهر غير متحرك. وأولئك المتكلمون يقولون: إن استدلال إبراهيم بالحركة لكون المتحرك يكون محدثا؛ لامتناع وجود حركات لا نهاية لها. وكل من الطائفتين تفسد طريقة الأخرى، وتبين تناقضها بالأدلة العقلية.

وحقيقة الأمر أن إبراهيم لم يسلك واحدة من الطريقين، ولا احتج بالحركة، بل بالأفول الذي هو المغيب والاحتجاب، كما قد بسط في موضع آخر.

فالآفل لا يستحق أن يعبد؛ ولهذا قال إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني [سورة الزخرف: 26- 27] وقال إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين [سورة الأنعام: 79] وقومه كانوا مقرين بالرب تعالى، لكن كانوا مشركين به، فاستدل على ذم الشرك، لا على إثبات الصانع.

ولو كان المقصود إثبات الصانع، لكانت قصة إبراهيم حجة عليهم لا لهم، فإنه من حين بزغ الكوكب والشمس والقمر، إلى أن أفلت كانت [ ص: 84 ] متحركة، ولم ينف عنها المحبة، ولا تبرأ منها كما تبرأ مما يشركون لما أفلت، فدل ذلك على أن حركتها لم تكن منافية لمقصود إبراهيم، بل نافاه أفولها.

التالي السابق


الخدمات العلمية