الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وملخص ذلك ما ذكره في «الإشارات» التي هي مصحف هؤلاء الفلاسفة. قال: (أوهام وتنبيهات. قال قوم: إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه، لكن إذا تذكرت ما قيل في [ ص: 255 ] شرط واجب الوجود، لم تجد هذا المحسوس واجبا، وتلوت قوله تعالى: لا أحب الآفلين [سورة الأنعام: 76] فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما).

قلت: هذا القول هو قول الدهرية المحضة من الفلاسفة وغيرهم، الذين ينكرون صدور العالم عن فاعل أو علة مستلزمة له، وهو الذي أظهره فرعون وغيره. وإليه يرجع عند التحقيق قول القائلين بوحدة الوجود من قدماء الفلاسفة. ومن هؤلاء الفلاسفة الذين يدعون التحقيق والتوحيد والمعرفة، كابن عربي وابن سبعين ونحوهما، فإن هؤلاء لا يثبتون موجودين متباينين أحدهما أبدع الآخر، بل كل وجود في الوجود فهو الوجود الواجب عندهم. ثم لما رأوا أن الموجودات فيها اختلاف وتفرق، وفيها ما حدث بعد وجوده، احتاجوا إلى أن يجمعوا بين كون الوجود واحدا بالعين، وبين ما يوجد فيه من التفرق والاختلاف، فتارة يقولون: الأعيان ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فيجمعون بين كون المعدوم شيئا ثابتا في العدم غنيا عن الله تعالى، كما قال ذلك من قاله من المعتزلة والشيعة، ويضمون إلى ذلك أن وجوده وجود الخالق تعالى. وهذا لم يقله أحد من أهل الملل، بل ولا من الفلاسفة الإلهيين. وهذا حقيقة قول ابن عربي.

وتارة يجعلون الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، والأعيان هي الممكنات، كما يقوله صاحبه القونوي.

وابن سينا وأتباعه يقولون: الوجود الواجب هو المطلق بشرط الإطلاق عن كل أمر ثبوتي، وهذا أفسد من ذاك، فإن المطلق بشرط إطلاقه لا [ ص: 256 ] وجود له في الخارج، وبتقدير وجوده فهو يعم ما تحته عموم الجنس والعرض العام، والعالم بشرط سلبه عن كل أمر ثبوتي هو وجود مقيد بالعدم وسلب الوجود، هذا أبعد عن الوجود من المقيد بسلب الوجود والعدم، فإن ما قيد بانتفاء الوجود والعدم، أقرب إلى العدم والامتناع مما قيد بسلب الوجود والعدم.

ومع هذا فهذا المطلق لا يوجد إلا بوجود الأعيان، لا يتصور أن يكون مبدعا لها ولا علة لها، بل غايته أن يكون صفة لها أو جزءا منها، فيكون الوجود الواجب صفة للممكنات أو جزءا منها، وما كان جزءا من الممكن أو صفة له أولى أن يكون ممكنا، فإما أن ينفوه أو يجعلوه محتاجا إلى المخلوقات، والمخلوقات مستغنية عنه.

وتارة يجعلونه مع الممكنات كالمادة في الصورة، أو الصورة في المادة، ونحو ذلك مما يقوله ابن سبعين ونحوه.

وتارة لا يثبتون شيئا آخر، بل هو عين الموجودات، وهي أجزاء له وأبعاض، كما قد يقوله التلمساني وأمثاله، وهذا محض قول الدهرية المحضة، الذين يجعلون هذا المحسوس واجبا بنفسه.

لكن طريقة ابن سينا وأتباعه في الرد عليه مبنية على أصله في توحيد واجب الوجود ونفي صفاته، وهي طريقة ضعيفة كما بين فسادها في غير هذا الموضع.

فلا يمكن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالفلاسفة الإلهية الرد على [ ص: 257 ] أولئك الدهرية الطبيعية بمثل هذه الطريق، بل بيان كون المشاهدات ليست واجبة بنفسها، بل مفتقرة إلى غيرها، يمكن بوجوه كثيرة، كما قد بسط في موضعه؛ إذ المقصود هنا ذكر كلامه في أفعال الرب تعالى، وما ذكره في قدم العالم.

قال: وقال آخرون: بل هذا الوجود المحسوس معلول، ثم افترقوا. فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين، لكن صنعته معلولة. وهؤلاء فقد جعلوا في الوجود واجبين، وأنت خبير باستحالة ذلك. ومنهم من جعل واجب الوجود لضدين أو لعدة أشياء، وجعل غير ذلك من ذلك، هؤلاء في حكم الذي قبلهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية