الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5874 5875 ص: حدثنا يزيد بن سنان ، قال : ثنا أبو عاصم ، وسعيد بن سفيان الجحدري ، قالا : ثنا ابن عون ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر : " أن عمر - رضي الله عنه - أصاب أرضا بخيبر ، فأتى النبي -عليه السلام - فقال : إنى أصبت أرضا بخيبر ، لم أصب مالا قط أحسن منها ، فكيف تأمرني ؟ فقال : إن شئت حبست أصلها لا تباع ولا توهب -قال أبو عاصم : : فأراه قال : ولا تورث - فتصدق بها في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها غير متمول . قال : فذكرت ذلك لمحمد فقال : غير متأثل " . .

                                                حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثنا عمي ، قال : حدثني إبراهيم بن سعد ، عن عبد العزيز بن مطلب ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع مولى ابن عمر ، عن ابن عمر : " أن عمر - رضي الله عنه - استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يتصدق بماله بثمغ ، فقال رسول الله -عليه السلام - : تصدق به ، يقسم تمره ويحبس أصله ، لا يباع ولا يوهب " .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذان طريقان صحيحان :

                                                الأول : عن يزيد بن سنان القزاز عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري ، وعن سعيد بن سفيان الجحدري نسبة إلى جحدر اسم رجل ، وهو ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكانة بن معبد بن علي بن بكر بن وائل البصري ، قال أبو حاتم : محله الصدق . روى له الترمذي .

                                                وهما يرويان عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري ، روى له الجماعة .

                                                [ ص: 390 ] عن نافع مولى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - .

                                                وأخرجه البخاري : نا مسدد ، ثنا يزيد بن زريع ، قال : نا ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : "أصاب عمر - رضي الله عنه - بخيبر أرضا ، فأتى النبي -عليه السلام - فقال : أصبت أرضا لم أصب مالا قط أفضل منه ، فكيف تأمرني ؟ فقال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ، فتصدق عمر - رضي الله عنه - أنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث ، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه .

                                                وأخرجه عن أبي عاصم ، عن ابن عون أيضا مختصرا .

                                                وأخرجه مسلم : عن يحيى بن يحيى ، قال : أنا سليم بن جعفر ، عن ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : "أصاب عمر - رضي الله عنه - أرضا بخيبر ، فأتى النبي -عليه السلام - يستشيره فيها ، فقال : يا رسول الله ، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه ، فما تأمرني به ؟ فقال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ، قال : فتصدق بها عمر - رضي الله عنه - أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب ، قال : فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه " . قال : فحدثت بهذا الحديث محمدا ، فلما بلغت هذا المكان "غير متمول " قال محمد : "غير متأثل مالا " ، قال ابن عون : وأنبأني من قرأ هذا الكتاب أن فيه : "غير متأثل مالا " .

                                                وأخرجه النسائي : عن إسحاق بن إبراهيم ، عن أبي داود الحفري عمر بن سعد ، عن الثوري ، عن ابن عون ، عن نافع .

                                                [ ص: 391 ] وعن هارون بن عبد الله ، عن معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن ابن عون ، عن نافع .

                                                وعن إسماعيل بن مسعود ، عن بشر ، عن ابن عون ، عن نافع .

                                                وعن إسحاق بن إبراهيم ، عن أزهر السمان ، عن ابن عون ، عن نافع .

                                                الطريق الثاني : عن أحمد بن عبد الرحمن ، عن عمه عبد الله بن وهب المصري . . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البيهقي : من حديث ابن وهب : أخبرني إبراهيم بن سعد إلى آخره نحوه .

                                                وأخرجه الدارقطني في "سننه " : ثنا محمد بن عبد الله بن زكرياء ، نا أبو عبد الرحمن النسائي ، نا محمد بن مصفى بن بهلول ، نا بقية ، عن سعيد بن سالم المكي ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر - رضي الله عنه - قال : "سألت رسول الله -عليه السلام - عن أرض من ثمغ فقال : حبس أصلها وسبل ثمرها " .

                                                قوله : "بخيبر " هي بلد بين عنزة في جهة الشمال والشرق عن المدينة على نحو ستة مراحل . "وخيبر " بلغة اليهود : الحصن ، وقيل : أول من سكن فيها رجل من بني إسرائيل اسمه خيبر فسميت به ، ولها نخيل كثير وكان في صدر الإسلام دارا لبني قريظة والنضير ، وحكي عن الزهري أن خيبرا فتحت في سنة ست من الهجرة ، والصحيح أن ذلك كان في أول سنة سبع من الهجرة .

                                                قوله : "فأراه " أي أظنه .

                                                [ ص: 392 ] قوله : "والقربى " على وزن فعلى -بالضم - مصدر في الأصل ، تقول : بيني وبينه قرابة وقربى وقرب ومقربة ومقربة وقربة وقربة بضم الراء وسكونها ، قال الله تعالى : ولذي القربى أراد به ها هنا القرابة في الرحم .

                                                قوله : "والرقاب " جمع رقبة ، وفي معناها قولان :

                                                أحدهما : أنهم المكاتبون يدفع إليهم شيء من الوقف تفك به رقابهم ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وجماعة .

                                                والثاني : أنه العتق وذلك بالابتياع من بالوقف ثم العتق .

                                                ويكون ولاؤهم لأصحاب الوقف إن كان له أهل .

                                                قال مالك : سبيل الله كثيرة ، وقال أبو يوسف ، سبيل الله منقطع الغزاة ، وقال محمد : منقطع الحاج ، وبه قال أحمد وإسحاق .

                                                قوله : "وابن السبيل " وهو الذي انقطعت به الأسباب في سفره ، وغاب عن بلده وماله بحيث لا يقدر عليه .

                                                قوله : "لا جناح على من وليها " أي لا إثم على من ولي الأرض الموقوفة وأراد به القيم عليها والناظر في أمرها من جهة الواقف أو من جهة الإمام .

                                                قوله : "غير متمول " نصب على الحال ، يقال : مال الرجل وتمول إذا صار ذا مال ، وقد موله غيره ، ويقال : رجل مال أي كثير المال ، كأنه قد جعل نفسه مالا ، وحقيقته : ذو مال .

                                                قوله : "غير متأثل " أي غير جامع ، يقال : مال مؤثل ، ومجد ماثل ، أي مجموع ذو أصل ، وأثلة الشيء أصله ، ومنه ما جاء في حديث أبي قتادة أنه لأول مال تأثلته .

                                                قوله : "فذكرت ذلك لمحمد " أراد به محمد بن سيرين ، والذاكر هو ابن عون .

                                                قوله : "بثمغ " أي في ثمغ ، وهو بفتح الثاء المثلثة والميم ، وفي آخره غين معجمة ، وهي بقعة على نحو ميل من المدينة ، وكان بها مال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .

                                                [ ص: 393 ] ويستنبط منه أحكام :

                                                الأول : فيه أن الوقف مشروع ; خلافا لمن يبطله جملة ، وهو قول شريح ، ولا خلاف بين الجمهور في جواز الوقف في حق وجوب التصدق بالفرع ما دام الواقف حيا حتى إن من وقف داره أو أرضه يلزمه التصدق بغلة الدار والأرض ، ويكون ذلك بمنزلة النذر بالتصدق بالغلة .

                                                ولا خلاف أيضا في جوازه في حق زوال ملك الرقبة إذا اتصل به قضاء القاضي ، أو أضافه إلى ما بعد الموت بأن قال : إذا مت ، فقد جعلت داري أو أرضي وقفا على كذا ، أو قال : هو وقف في حياتي صدقة بعد وفاتي .

                                                واختلفوا في جوازه مزيلا لملك الرقبة إذا لم توجد الإضافة إلى ما بعد الموت ، ولا اتصل به حكم حاكم ، فقال أبو حنيفة : لا يجوز حتى كان للواقف بيع الموقوف وهبته ، وإذا مات يصير ميراثا لورثته .

                                                وقال أبو يوسف ومحمد وعامة العلماء : يجوز حتى لا يباع ولا يوهب ولا يورث ، ثم في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة لا فرق بينهما إذا وقف في حالة المرض حتى لا يجوز عنده في الحالين جميعا إذا لم توجد الإضافة ولا حكم الحاكم ، وروى الطحاوي عنه أنه إذا وقف في حالة المرض جاز عنده ويعتبر من الثلث ، ويكون بمنزلة الوصية بعد وفاته ، وأما عندهما فهو جائز في الصحة والمرض ، وعلى هذا الخلاف إذا بنى رباطا أو خانا للمسافرين أو سقاية للمسلمين ، أو جعل أرضه مقبرة ، لا تزول رقبة هذه الأشياء عن ملكه عند أبي حنيفة إلا إذا أضاف إلى ما بعد الموت أو حكم به حاكم وعندهما يزول بدون ذلك ، لكن عند أبي يوسف بنفس القول وعند محمد بواسطة التسليم ، وذلك تسليم المسافرين في الرباط والخان واستسقاء الناس في السقاية والدفن في المقبرة ، وأجمعوا على أن من جعل داره أو أرضه مسجدا يجوز ، وتزول الرقبة عن ملكه ، لكن عزل الطريق وإفرازه والإذن للناس بالصلاة فيه والصلاة شرط عند أبي حنيفة ومحمد حتى كان له أن يرجع قبل

                                                [ ص: 394 ] ذلك ، وعند أبي يوسف تزول الرقبة عن ملكه بنفس قوله : جعلته مسجدا وليس له أن يرجع عنه .

                                                الثاني : احتج به الجمهور وأبو يوسف ومحمد على ما ذهبوا إليه ، وقد ذكرناه مفصلا .

                                                الثالث : فيه أن الوقف لا يجوز بيعه ولا هبته ولا يصير ميراثا ; لأنه صار لله تعالى وخرج عن ملك الواقف ، واختلفوا : هل يدخل في ملك الموقوف عليه أم لا ؟

                                                فقال أصحابنا : لا يدخل ، لكنه ينتفع بغلته بالتصدق عليه ; لأن الوقف حبس الأصل وتصدق بالفرع ، والحبس لا يوجب ملك المحبوس كالرهن ، وعن الشافعي ومالك وأحمد : ينتقل إلى ملك الموقوف عليه لو كان أهلا له ، وعن الشافعي في قول : ينتقل إلى الله تعالى . وهو رواية عن أصحابنا ، وعن الشافعي أن الملك في رقبة الوقف لله تعالى ، وذكر صاحب "التحرير " أنه إذا كان الوقف على شخص ، وقلنا الملك للموقوف عليه افتقر إلى قبضه كالهبة ، وقال النووي في "الروضة " : هذا غلط ظاهر .

                                                الرابع : فيه أن الوقف يجوز بلفظ : حبست ، بل الأصل هذه اللفظة ; لأن الوقف في اللغة الحبس .

                                                وفي "الروضة " : لا يصح الوقف إلا بلفظ ، فلو بنى على هيئة المساجد أو على غير هيئتها وأذن في الصلاة فيه لم يصر مسجدا وألفاظه على مراتب :

                                                إحداها : قوله : وقفت كذا أو حبست أو سبلت ، أو أرضي موقوفة ، أو محبسة أو مسبلة ، فكل لفظ من هذا صريح ، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور وفي وجه : هذا كله كناية ، وفي وجه : الوقف صريح والباقي كناية .

                                                الثانية : قوله : حرمت هذه البقعة للمساكين أو أبدتها ، أو داري محرمة ، أو مؤبدة ، كناية على المذهب .

                                                [ ص: 395 ] الثالثة : تصدقت بهذه البقعة ، ليس بصريح فإن زاد معه صدقة محرمة أو محبسة أو موقوفة ; التحق بالصريح ، وقيل : لا بد من التقييد بأنها لا تباع ولا توهب ، وقال الحنابلة : يصح الوقف بالقول ، وفي الفعل الدال عليه روايتان ، وألفاظه الصريحة : وقفت وحبست وسلبت ، والكناية : تصدقت وحرمت وأبدت ، وتحتاج الكناية إلى نية أو زيادة حكم الوقف ، وإن كان على -أو من - معين افتقر إلى قبول ، كالوصية والهبة .

                                                وقال القاضي : منهم لا يفتقر إلى قبوله كالعتق .

                                                الخامس : فيه أن قيم الوقف له أن يتناول من غلة الوقف بالمعروف ، ولا يأخذ أكثر من حاجته ، هذا إذا لم يعين الواقف له شيئا معينا ، فإذا عينه ، له أن يأخذ ذلك قليلا أو كثيرا . والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية