الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والصحيح الذي عليه السلف وأئمة الفقهاء، أنها تكون موجودة قبل الفعل، وتبقى إلى حين الفعل. ولهذا يجوز عندهم وجود الاستطاعة بدون الفعل، كما في حق العصاة، ولولا هذا لم يكن أحد ممن كفر وعصى الله، إلا غير مستطيع لطاعة الله، وهو خلاف الكتاب والسنة.

قال تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [سورة آل عمران: 97]. وقال: فاتقوا الله ما استطعتم [سورة التغابن: 16]. [ ص: 242 ] وقال: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين [سورة النساء: 92].

ومعلوم أنه ليس المنفي هنا استطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فإنه قد يكون حينئذ معنى الكلام: فمن لم يفعل فعليه صيام شهرين متتابعين. وكذلك يكون الأمر بالتقوى لمن اتقى لا لمن لم يتق، وإيجاب الحج على من حج دون من لم يحج، وهذا باطل.

فعلم أن المراد استطاعة توجد بدون الفعل، وما كانت موجودة بدون الفعل أمكن وجودها قبله بطريق الأولى.

وقد بين في غير هذا الموضع أن تسلسل العلل والمعلولات ممتنع بصريح الفعل واتفاق العقلاء، وكذلك تسلسل الفعل والفاعلين، والخلق والخالقين، فيمتنع أن يكون للخالق خالق، وللخالق خالق إلى غير نهاية.

ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من وسوسة الشيطان،
فقال في الحديث الصحيح: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته».. وفي رواية أخرى: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليتعوذ بالله ولينته».

وكذلك إذا قيل: لا يخلق شيئا إن لم يخلق كذا، ولا يخلق كذا إن لم [ ص: 243 ] يخلق كذا، كان هذا ممتنعا؛ لأنه منع وجود الخالق بالكلية، حتى يوجد تمام كونه مؤثرا، وتمام كونه مؤثرا موقوف على تمام آخر، فيلزم ألا يوجد تمام كونه خالقا، فيلزم ألا يخلق شيئا قط. فإذا علم أنه لا يخلق شيئا إلا بكن فلو كان كن مخلوقا بكن أخرى وهلم جرا، كان كل واحدة من ذلك بها يصير خالقا، ولم يوجد شيء من ذلك، فيمتنع أن يصير خالقا.

وهذا بخلاف ما إذا قيل: يخلق هذا بكن، وهذا قبله أو بعده بكن وهلم جرا، فإن هذا يقتضي أنه لا يوجد الثاني إلا بعد وجود الأول. والتوقف ها هنا على الشرط، هو فعله لهذا المعين، لا أصل الفعل، فلهذا كان في هذا نزاع مشهور، بخلاف الأول.

ومعلوم أن الأدلة العقلية لا تدل على قدم شيء من العالم، وإنما غايتها أن تدل على دوام الفاعلية، وامتناع كونه فاعلا بعد أن لم يكن.

فإذا قالوا: التسلسل باطل، فإن عنوا به تسلسل الآثار، ووجود شيء بعد شيء فهذا خلاف قولهم، ولم يقيموا دليلا على بطلانه.

وإن أرادوا به التسلسل الخاص، وهو التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلا، فهذا مسلم أنه ممتنع، لكن امتناعه لا يدل على فعله لشيء معين، بل على أصل الفعل، وهذا لا ينفعهم بل يضرهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية