الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب التاسع في حفظ الله تعالى إياه في شبابه عما كان عليه أهل الجاهلية واشتهاره بالأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة قبل بعثته وتعظيم قومه له صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              قال داود بن الحصين ، فيما رواه ابن سعد وابن عساكر ، وابن إسحاق فيما رواه البيهقي وغيره : فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية ومعايبها ، لما يريد به من كرامته ورسالته ، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا ، وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا ، وأعظمهم حلما ، وأصدقهم حديثا ، وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما . ما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر أبو هاشم محمد بن ظفر في «خير البشر بخير البشر» : حج أكثم بن صيفي حكيم العرب ، والنبي صلى الله عليه وسلم في سن الحلم ، فرآه أكثم فقال لأبي طالب : ما أسرع ما شب أخوك . فقال ليس بأخي ولكنه ابن أخي عبد الله . فقال أكثم أهو ابن الذبيحين ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                                                                                                              فجعل يتوسمه ثم قال لأبي طالب ما تظنون به ؟ قال : نحسن به الظن وإنه لوفي سخي . قال ؟

                                                                                                                                                                                                                              هل غير هذا ؟ قال : نعم إنه لذو شدة ولين ومجلس ركين وفضل متين . قال فهل غير هذا ؟ قال :

                                                                                                                                                                                                                              إنا لنتيمن بمشهده ونتعرف البركة فيما لمسه بيده . فقال أكثم : أقول غير هذا إنه ليضرب العرب قامطة- يعني جامعة- بيد حائطة ورجل لائطة ثم ينعق بهم إلى مرتع مريع وورد سريع فمن اخرورط إليه هداه ومن احرورف عنه أرداه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد عن الربيع بن خثيم قال : كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية قبل الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عما كان الله يحفظه في صغره من أمر الجاهلية وأنه قال : لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الصبيان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة فإني لأقبل معهم وأدبر إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال : شد عليك إزارك . قال : فأخذته فشددته علي ثم جعلت أنقل الحجارة على رقبتي وإزاري على من بين أصحابي . [ ص: 148 ]

                                                                                                                                                                                                                              وهذه القصة شبيهة بما وقع عند بناء الكعبة .

                                                                                                                                                                                                                              روى الطبراني والبيهقي في الدلائل من طريق عمرو بن قيس ، وابن جرير في التهذيب من طريق هارون بن المغيرة ، وأبو نعيم في المعرفة من طريق قيس بن الربيع ، وفي الدلائل من طريق شعيب بن خالد ، كلهم عن سماك بن حرب ، وأبو نعيم من طريق الحكم بن أبان ، كلاهما عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : حدثني أبي العباس بن عبد المطلب قال : لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين ينقلون الحجارة ، فكنت أنا وابن أخي فجعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا فبينا هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء فقلت : يا ابن أخي ما شأنك ؟ قال نهيت أن أمشي عريانا . قال : فكتمته حتى أظهره الله بنبوته .

                                                                                                                                                                                                                              وورد من حديث جابر وأبي الطفيل . ويأتيان .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي وغيره عن أبي موسى أن بحيرا حين حلف النبي صلى الله عليه وسلم باللات والعزى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا .

                                                                                                                                                                                                                              وعن علي رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من الغناء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله منهما . قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلنا فقلت لصاحبي : أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الفتيان . فقال : بلى فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا وغرابيل ومزامير . قلت ما هذا ؟ قيل : تزوج فلان فلانة . فجلست أنظر . وضرب الله على أذني ، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال : ما فعلت ؟ فقلت : ما فعلت شيئا ثم أخبرته بالذي رأيت . ثم قلت له ليلة أخرى : أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة . ففعل فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال : ما فعلت ؟ فقلت لا شيء ثم أخبرته بالذي رأيت فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله بنبوته .

                                                                                                                                                                                                                              رواه ابن إسحاق وإسحاق بن راهويه والبزار وابن حبان . قال الحافظ : وإسناده حسن متصل .

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين [ ص: 149 ] [الشعراء 214] نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريش بطنا بطنا فقال : «أرأيتم لو قلت لكم إن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟» قالوا : نعم ما جربنا عليك كذبا قط .

                                                                                                                                                                                                                              رواه الشيخان .

                                                                                                                                                                                                                              وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب كل ما ذبح لغير الله فما ذقت شيئا ذبح على النصب حتى أكرمني الله برسالته .

                                                                                                                                                                                                                              رواه أبو نعيم .

                                                                                                                                                                                                                              وعن علي رضي الله تعالى عنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : هل عبدت وثنا قط ؟ قال : لا .

                                                                                                                                                                                                                              قالوا : فهل شربت خمرا قط ؟ قال : «لا وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              رواه أبو نعيم وابن عساكر .

                                                                                                                                                                                                                              وعن أم أيمن رضي الله تعالى عنها قالت : كان بوانة صنما تحضره قريش يوما في السنة فكان أبو طالب يحضره مع قومه وكان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك معه فيأبى حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن عليه وقلن يا محمد ما تريد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمحا . فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب ما شاء الله ثم رجع مرعوبا فزعا فقالت عماته : ما دهاك ؟ قال : إني أخشى أن يكون بي لمم فقلن : ما كان الله يبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك ، فما الذي رأيت ؟ قال : إني كلما دعوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي : وراءك يا محمد لا تمسه قالت : فما عاد إلى عيد لهم .

                                                                                                                                                                                                                              رواه ابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر .

                                                                                                                                                                                                                              وعن جبير بن مطعم قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من الله تعالى له .

                                                                                                                                                                                                                              وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كانت قريش ومن دان دينها وهم الحمس يقفون عشية عرفة بالمزدلفة ويقولون : نحن قطن البيت . وكانت بقية الناس والعرب يقفون بعرفات فأنزل الله عز وجل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فتقدموا فوقفوا مع الناس .

                                                                                                                                                                                                                              رواه الشيخان . [ ص: 150 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى يعقوب بن سفيان عن الزهري أن قريشا سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي فطفقوا ألا ينحروا جزورا إلا التمسوه فيه فيدعو لهم فيها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان من حديث عائشة في حديث بدء الوحي لما أتاه جبريل بالوحي قال لخديجة : لقد خشيت على نفسي وأخبرها الخبر . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية