الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الرابع في قصة إسلام أبي ذر وأخيه أنيس- رضي الله تعالى عنهما-

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو داود الطيالسي والإمام أحمد ومسلم عن عبد الله بن الصامت ، والبخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، كلاهما عن أبي ذر ، قال ابن الصامت عنه : قد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين . قلت : لمن؟ قال لله . قلت فأين توجه؟ قال : حيث يوجهني ربي عز وجل أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت نفسي كأني خفاء حتى تعلوني الشمس . قال فقال لي أنيس أخي : إن لي حاجة بمكة فاكفني ، فانطلق . ثم جاء .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عباس عنه : كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي : انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء فقلت : ما عندك؟ فقال : والله لقد رأيت رجلا يأمر بخير وينهى عن الشر . وفي رواية لقد رأيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق . قلت : فما يقول الناس؟ قال : يقولون : شاعر كاهن ساحر . وكان أنيس أحد الشعراء . قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون ، قال : فقلت : لم تشفني من الخبر فاكفني حتى أذهب فأنظر . قال : نعم وكن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموه . قال : فحملت شنة لي فيها ماء . وفي رواية : فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فأتيت المسجد ألتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعرفه وأكره أن أسأل عنه . وفي رواية ابن الصامت : فتضعفت رجلا منهم فقلت : أين هذا الرجال الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي : فقال : الصابئ الصابئ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي . قال : فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر ، فأتيت زمزم فغسلت عن الدماء وشربت من مائها ، ولقد لبثت ثلاثين بين ليلة ويوم وما كان لي طعام إلا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع . فدخلت بين الكعبة وأستارها فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت أحد وامرأتان منهم تدعوان إحافا ونائلة فأتتا علي في طوافهما فقلت : أنكحوا إحداهما الأخرى . فما تناهتا عن قولهما ، فأتتا علي فقلت : هن مثل الخشبة . غير أنى لا أكني . فانطلقتا تولولان وتقولان : لو كان ها هنا أحد من أنفارنا .

                                                                                                                                                                                                                              فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطتان قالا : ما لكما؟ قالتا : الصابئ بين الكعبة وأستارها . قالا : ما قال؟ قالتا : إنه قال لنا كلمة تملأ الفم .

                                                                                                                                                                                                                              وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر وطاف بالبيت وهو وصاحبه ، ثم صلى ، فلما . [ ص: 315 ]

                                                                                                                                                                                                                              قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته أتيت فقلت : السلام عليك يا رسول الله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو ذر : فكنت أول من حياه بتحية الإسلام فقال : وعليك السلام ورحمة الله . ثم قال : ممن الرجل؟ قلت : من غفار ، فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته فقلت في نفسي : كره أن انتميت إلى غفار . فذهبت آخذ بيده فقدعني صاحبي وكان أعلم به مني ، ثم رفع رأسه فقال : متى كنت هاهنا؟ قلت : كنت من ثلاثين بين ليلة ويوم . قال : فمن كان يطعمك؟ قلت : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على بطني سخفة جوع . قال : مباركة ، إنها طعام طعم وشفاء سقم .


                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية ابن عباس عن أبي ذر قال : أقبلت حتى أتيت مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه ، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد ، واضطجعت . قال : فمر بي علي فقال : كأن الرجل غريب؟ قلت : نعم . قال : فانطلق إلى المنزل . قال فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره فلما أصبحت احتملت قربتي وزادي إلى المسجد أسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس أحد يخبرني عنه بشيء ، فظللت ذلك اليوم حتى أمسيت فعدت إلى مضجعي فمر بي علي فقال : أما نال للرجل أن يعرف منزله بعد؟ قلت : لا . قال : انطلق معي . فذهبت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره عن شيء ، فلما كان اليوم الثالث فعل ذلك ، فأقامه فذهب معه ثم قال له : ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟ فقلت له : إن كتمت علي أخبرتك . وفي رواية : إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت . ففعل فأخبرته فقال : أما إنك قد رشدت إنه حق وإنه رسول الله ، فإذا أصبحت فاتبعني فإن رأيت شيئا أخافه عليك قمت كأني أريق ماء . وفي رواية : قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامضي أنت ، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي .

                                                                                                                                                                                                                              فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له : اعرض علي الإسلام ، فعرض فأسلمت مكاني فقال : يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فأخبرهم بأمري ، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت : والذي بعثك بالحق- وفي رواية : والذي نفسي بيده- لأصرخن بها بين ظهرانيهم .

                                                                                                                                                                                                                              فخرجت حتى أتى المسجد وقريش فيه فناديت بأعلى صوتي : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله . فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ . فثار القوم فضربت لأموت . وفي رواية حتى أضجعوني فأدركني العباس فأكب علي ثم قال : ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأنه طريق تجارتكم عليهم؟! فأقلعوا عني .

                                                                                                                                                                                                                              فلما أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس ، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي ما صنع بالأمس ، وأدركني العباس فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس .
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 316 ]

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث ابن الصامت فقال أبو بكر : يا رسول الله إيذن لي في طعامه الليلة . فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلقت معهما ، ففتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف وكان ذلك أول طعام أكلت بها . ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني وجهت لي أرض ذات نخل ولا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟

                                                                                                                                                                                                                              قال : فأتيت أنيسا فقال ما صنعت؟ قلت : قد أسلمت وصدقت . فقال : ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت . فأتينا أمنا فقالت : ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت ، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وقال نصفهم : إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا . فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم نصفهم الباقي وجاءت أسلم فقالوا : يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه . فأسلموا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية