الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : قال الحافظ أبو الفضل العراقي رحمه الله تعالى : في أول شرحه لتقريبه . قد أنكر صحة وقوع شق الصدر ليلة الإسراء ابن حزم وعياض وادعيا أنه تخليط من شريك . وليس كذلك فقد ثبت في الصحيحين من غير طريق شريك .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الإمام أبو العباس القرطبي في المفهم : لا يلتفت لإنكار شق الصدر ليلة الإسراء لأن رواته ثقات مشاهير .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحافظ : قد أنكر شق الصدر ليلة الإسراء بعضهم ولا إنكار في ذلك ، فقد تواترت به الروايات .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : قال القرطبي في المفهم والتوربشتي - بضم المثناة الفوقية وفتح الراء وكسر [ ص: 65 ] الموحدة وسكون الشين المعجمة بعدها مثناة فوقية- في شرح المصابيح والطيبي في شرح المشكاة والحافظ والشيخ وغيرهم رحمهم الله تعالى أن جميع ما ورد في شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك مما يجب التسليم له دون تعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك . ويؤيده الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ رحمه الله تعالى : وما وقع من بعض جهلة العصر من إنكار ذلك وحمله على الأمر المعنوي وإلزام قائله القول بقلب الحقائق ، فهو جهل صريح وخطأ قبيح نشأ من خذلان الله تعالى لهم وعكوفهم على العلوم الفلسفية وبعدهم عن دقائق السنة . عافانا الله تعالى من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : قال العلامة ابن المنير - بضم الميم وفتح النون وكسر التحتية المشددة رحمه الله تعالى : وشق الصدر له صلى الله عليه وسلم وصبره عليه من جنس ما ابتلى به الله الذبيح وصبر عليه ، بل هذا أشق وأجل لأن تلك معاريض وهذه حقيقة ، وأيضا فقد تكرر ووقع له صلى الله عليه وسلم وهو صغير يتيم بعيد من أهله صلى الله عليه وسلم وزاده شرفا وفضلا .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : سئل شيخ الإسلام أبو الحسن السبكي رحمه الله تعالى عن العلقة السوداء التي أخرجت من قلبه صلى الله عليه وسلم حين شق فؤاده وقول الملك : هذا حظ الشيطان منك .

                                                                                                                                                                                                                              فأجاب رحمه الله تعالى : بأن تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه صلى الله عليه وسلم فلم يبق فيه مكان لأن يلقي الشيطان فيه شيئا . هذا معنى الحديث ولم يكن للشيطان فيه حظ . وأما الذي نفاه الملك هو أمر في الجبلات البشرية فأزيل القابل الذي لم يكن يلزم من حصوله حصول القذف في القلب .

                                                                                                                                                                                                                              قيل له : فلم خلق الله تعالى هذا القابل في هذه الذات الشريفة ، وكان يمكن أن لا يخلقه الله تعالى فيها ؟ فقال : إنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقه تكملة للخلق الإنساني ولا بد منه ونزعه كرامة ربانية طرأت .

                                                                                                                                                                                                                              وقال غيره : لو خلق الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم سليما فيها لم يكن للآدميين اطلاع على حقيقته ، فأظهره الله تعالى على يد جبريل عليه الصلاة والسلام ليتحقق كمال باطنه كما برز لهم مكمل الظاهر .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة - وهو بجيم مفتوحة فراء مهملة [ ص: 66 ] رحمه الله تعالى : الحكمة في شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيمانا وحكمة من غير شق : الزيادة في قوة اليقين لأنه أعطي برؤية شق بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمن معه من جميع المخاوف العادية ، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس حالا ومقالا ولذلك وصف بقوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى [النجم 17] .

                                                                                                                                                                                                                              السادس : اختلف : هل كان شق الصدر وغسله مختصا به صلى الله عليه وسلم أو وقع لغيره ؟ صحح الشيخ رحمه الله تعالى عدم المشاركة . وسيأتي في الخصائص أن الصحيح المشاركة .

                                                                                                                                                                                                                              السابع : في الحكمة في تكرره . قال الحافظ رحمه الله تعالى ، بعد أن ذكر الأولى والثالثة والرابعة : ولكل من الثلاث حكمة ، فالأولى كان في زمن الطفولية لينشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان ، ثم عند المبعث زيادة في الكرامة ليتلقى ما يلقى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير ، ثم وقع عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وسكت عن حكمه المرة الثانية مع ذكره للمرة الثانية في كتاب التوحيد جازما بها ويحتمل أن يقال لما كان العشر قريبا من سن التكليف شق صدره صلى الله عليه وسلم وقدس حتى لا يلتبس بشيء مما يعاب على الرجال . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ رحمه الله تعالى : ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما هي في شرعه صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى : وإنما غسل قلبه صلى الله عليه وسلم وقد كان مقدسا وقابلا لما يلقى فيه من الخير . وقد غسل أولا وهو صغير السن وأخرجت منه العلقة إعظاما وتأهبا لما يلقى هناك . يعني في المعراج . وقد جرت الحكمة بذلك في غير ما موضع مثل الوضوء للصلاة لمن كان متوضئا لأن الوضوء في حقه إنما هو إعظام وتأهب للوقوف بين يدي الله تعالى ومناجاته . وكذلك أيضا الزيادة على الواحدة والثنتين إذا أسبغ بالأولى لأن الإجزاء قد حصل وبقي ما بعد الإسباغ إلى الثلاث عظاما لما يقدم عليه . وكذلك غسل الباطن هنا وقد قال تعالى : ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج 32] فكان الغسل له صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل وإشارة لأمته بالفعل بتعظيم الشعائر كما نص عليه بالقول .

                                                                                                                                                                                                                              وقال البرهان النعماني رحمه الله تعالى في سراجه : قد سن لداخل الحرم الشريف الغسل ، فما ظنك بداخل الحضرة المقدسة ؟! فلما كان الحرم الشريف من عالم الملك وهو ظاهر الكائنات أنيط الغسل له بظاهر البدن في عالم المعاملات ، ولما كانت الحضرة القدسية من عالم الملكوت وهو باطن الكائنات أنيط الغسل بباطن البدن في التحقيقات ، وقد عرج به صلى الله عليه وسلم لتفرض عليه الصلاة وليصلي بملائكة السماوات ، ومن شأن الصلاة الطهور فقدس ظاهرا وباطنا . [ ص: 67 ]

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت : إن الله تعالى خلقه نورا متنقلا من الأنبياء وفي صفاء النور ما يغني عن التطهير الحسي ، ثم إن المرة الأولى لم تكن كافية في تطهير الباطن ويلزم عليه أنه بعد النبوة كان فيه شيء يحتاج إلى ذلك ، وهو منزه عن أدران البشرية .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : الغسلة الأولى لعين اليقين والثانية لعلم اليقين ، والثالثة لحق اليقين .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن : اختلف هل وقع له صلى الله عليه وسلم مع ذلك مشقة أم لا ؟ .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : من غير مشقة وبه جزم ابن الجوزي فقال : شقه وما شق عليه . وقال ابن دحية : بمشقة عظيمة ولهذا انتقع لونه صلى الله عليه وسلم أي صار كلون النقع وهو الغبار ، وهذه صفة ألوان الموتى .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : رواية «انتقع لونه» حكاية ، وقع في المرة الأولى وهو صغير في بني سعد . وأما ما وقع بعدها فلم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم تأثر لذلك . وقد تقدم في حديث أبي هريرة في المرة الثانية ما يؤيد ذلك فراجعه .

                                                                                                                                                                                                                              التاسع : وقع السؤال هل كان شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم بآلة أم لا : ولم يجب عنه أحد ولم أر من تعرض له بعد التتبع . وظاهر قوله : «فشق» أنه كان بآلة ، ويدل لذلك قول الملك في حديث أبي ذر . «خط بطنه فخاطه» وفي لفظ عن عتبة بن عبد : «حصه فحاصه» ، وفي حديث أنس «كانوا يرون أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم» .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر :

                                                                                                                                                                                                                              في حديث أبي ذر «وأتيت بالسكينة كأنها برهرهة فوضعت في صدري »

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن الأنباري : «برهرهة» وهي السكينة المعوجة الرأس التي تسميها العامة «المنجل» بالجيم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي : عثرت على رواية وفيها : أنه شق عن قلبه قال : فدعي بسكينة كأنها درهمة بيضاء ، فوقع لي أنه أراد بالبرهرهة سكينة بيضاء صافية الحديد تشبيها بالبرهرهة من النساء في بياضها وصفائها .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال ابن دحية والصواب في هذه اللفظة السكينة- أي بالتخفيف لأنه قال بعد شق البطن ، ثم أتيت بالسكينة كأنها برهرهة فوضعت في صدري ، فإنما عني بها السكينة التي هي في الأصل اللغة فعيلة من السكون وهي أكثر ما تأتي في القرآن العظيم بمعنى السكون والطمأنينة .

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر : خص الطست بما ذكر لكونه أشهر آلات الغسل عرفا .

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي رحمه الله تعالى : وفي ذكر الطست أيضا وحروف اسمه حكم تنظر إلى قوله تعالى : طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين [النمل 1] . [ ص: 68 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثاني عشر : قال السهيلي : خص الذهب لكونه مناسبا للمعنى الذي أريد به فإن نظرت إلى لفظ الذهب فمطابق للذهاب ، فإن الله تعالى أراد أن يذهب عنه الرجس ويطهره تطهيرا وإن نظرت إلى معنى الذهب وأوصافه وجدته أنقى شيء وأصفاه يقال في المثل : «أنقى من الذهب» وقالت بريرة في عائشة رضي الله تعالى عنها : ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر . وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه في صلة- بكسر الصاد المهملة- ابن أشيم- بالشين المعجمة- وزن أعلم : إنما قلبه ذهب . وقال جرير بن حازم رحمه الله تعالى ، وهو بالحاء المهملة والزاي ، في الخليل بن أحمد : إنه لرجل من ذهب . يريد النقاء من العيوب .

                                                                                                                                                                                                                              فقد طابق طست الذهب ما أريد بالنبي صلى الله عليه وسلم من نقاء قلبه .

                                                                                                                                                                                                                              ومن أوصاف الذهب أيضا المطابقة لهذا المقام : ثقله ورسوبه فإنه يجعل في الزئبق الذي هو أثقل الأشياء فيرسب . والله سبحانه وتعالى يقول : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [المزمل 5] وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : إنما ثقلت موازين المحقين يوم القيامة لاتباعهم الحق وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا . وقال في أهل الباطل بعكس ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أنزل عليه الوحي وهو على ناقته فثقل عليها حتى ساخت قوائمها في الأرض . فقد طابقت الصفة المعقولة الصفة المحسوسة .

                                                                                                                                                                                                                              ومن أوصاف الذهب أيضا : أنه لا تأكله النار ، وكذلك القرآن لا تأكل النار يوم القيامة قلبا وعاه ولا بدنا عمل به . قال عليه الصلاة والسلام : «لو كان القرآن في إهاب ثم طرح في النار ما احترق» .

                                                                                                                                                                                                                              ومن أوصاف الذهب المناسبة لأوصاف القرآن والوحي : أن الأرض لا تبليه وأن الهواء لا يذريه وكذلك القرآن لا يخلق على كثرة الرد ولا يستطاع تغييره ولا تبديله .

                                                                                                                                                                                                                              ومن أوصافه أيضا : نفاسته وعزته عند الناس . وكذلك القرآن والحق عزيزان ، قال تعالى :

                                                                                                                                                                                                                              وإنه لكتاب عزيز [فصلت 41 . ]

                                                                                                                                                                                                                              فهذا إذا نظرت إلى أوصافه ولفظه فإن نظرت إلى ذاته وظاهره فإنه زخرف الدنيا وزينتها ، وقد فتح بالقرآن والوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وأمته خزائن الملوك وتصيير ذلك إلى أيديهم [ ص: 69 ] ذهبها وفضتها وجميع زخرفها وزينتها . ثم وعد بإتباع الوحي والقرآن قصور الذهب في الجنة قال صلى الله عليه وسلم : «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما» وفي التنزيل : يطاف عليهم بصحاف من ذهب [الزخرف 71] فكأن ذلك الذهب يشعر بالذهب الذي يصير إليه من اتبع الحق والقرآن ، وأوصافه تشعر بأوصاف الحق والقرآن ، ولفظه يشعر بإذهاب الرجس . كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                              فهذه حكم بالغة لمن تأمل ، واعتبار صحيح لمن تدبر .

                                                                                                                                                                                                                              وزاد غيره أن الذهب من جوالب السرور . وقال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                              صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث عشر : قال النووي رحمه الله تعالى : ليس في هذا الخبر ما يوهم جواز استعمال إناء الذهب والفضة لأن هذا فعل الملائكة واستعمالهم ، وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا ولأنه كان قبل تحريم النبي صلى الله عليه وسلم أواني الذهب والفضة . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              أي لأن التحريم إنما وقع بالمدينة كما نبه عليه الحافظ .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع عشر : يؤخذ من غسل قلبه صلى الله عليه وسلم بماء زمزم أنه أفضل المياه وبه جزم الإمام البلقيني قال ابن أبي جمرة : إنما لم يغسل بماء الجنة لما اجتمع في زمزم من كون أصل مائها من الجنة ثم استقر في الأرض ، فأريد بذلك بقاء بركته صلى الله عليه وسلم في الأرض .

                                                                                                                                                                                                                              وقال غيره : لما كان ماء زمزم أصل حياة أبيه إسماعيل صلى الله عليه وسلم وقد ربي عليه ونما عليه قلبه وجسده وصار هو صاحبه وصاحب البلدة المباركة ، ناسب أن يكون ولده الصادق المصدوق كذلك . ولما فيه من الإشارة إلى اختصاصه بذلك بعده فإنه قد صارت الولاية إليه في الفتح فجعل السقاية للعباس وولده وحجابة البيت لعثمان بن شيبة وعقبه إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس عشر : الحكمة في غسل صدره صلى الله عليه وسلم بماء الثلج والبرد هي مع ما فيهما من الصفاء وعدم التكدر بالأجزاء الترابية التي هي محل الأرجاس وعنصر الأكدار ، الإيماء إلى أن الوقت يصفو له صلى الله عليه وسلم ولأمته ويروق بشريعته الغراء وسنته ، والإشارة إلى ثلوج صدره أي انشراحه بالنصر على أعدائه والظفر بهم والإيذان ببرودة قلبه ، أي طمأنينته على أمته بالمغفرة لهم والتجاوز عن سيئاتهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن دحية : إنما غسل قلبه صلى الله عليه وسلم بالثلج لما يشعر به الثلج من ثلج اليقين إلى قلبه .

                                                                                                                                                                                                                              وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول بين التكبير والقراءة : « اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد

                                                                                                                                                                                                                              » وأراد [ ص: 70 ] تعالى أن يغسل قلبه فيما حمل من الجنة في طست ملئ حكمة وإيمانا ليعرف قلبه طيب الجنة ويجد حلاوتها فيكون في الدنيا أزهد وعلى دعوة الخلق إلى الجنة أحرص ، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان له أعداء يتقولون عليه فأراد الله تعالى أن ينفي عنه طبع البشرية من ضيق الصدر وسوء مقالات الأعداء ، فغسل قلبه ليورث ذلك صدره سعة ويفارقه الضيق . كما قال تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [الحجر 97] . فغسل قلبه غير مرة فصار بحيث إذا ضرب أو شج رأسه أو كسرت رباعيته كما في يوم أحد

                                                                                                                                                                                                                              يقول : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .

                                                                                                                                                                                                                              السادس عشر : جاء في رواية : أن المغسول البطن . فقيل : المراد بالبطن هنا ما بطن وهو القلب ، واستظهره بعضهم لأنه جاء في رواية ذكر القلب ولم يذكر البطن . ويحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها ، ويقع الجمع بينهما بأن يقال : أخبر صلى الله عليه وسلم مرة بغسل البطن ولم يتعرض لذكر القلب ، وأخبر مرة بذكر القلب ولم يتعرض لذكر البطن ، فيكون قد حصل فيهما معا مبالغة في تنظيف المحل .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : تقدم التصريح بذلك في الأحاديث السابقة .

                                                                                                                                                                                                                              السابع عشر : قال السهيلي رحمه الله تعالى : فإن قيل كيف يكون الإيمان والحكمة في طست من ذهب ، والإيمان عرض من الأعراض لا يوصف بها إلا محلها والذي يقوم به ، ولا يجوز فيها الانتقال لأن الانتقال من صفة الأجسام لا من صفة الأعراض ؟ قلنا : إنما عبر عما في الطست- بالحكمة والإيمان كما عبر عن اللبن الذي شربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب بالعلم ، فكان تأويل ما أفرغ في قلبه صلى الله عليه وسلم إيمانا وحكمة ولعل الذي كان في الطست كان ثلجا وبردا كما ذكر في الحديث الأول ، فعبر في المرة الثانية بما يؤول إليه وعبر عنه في المرة الأولى بصورته التي رآها ، لأنه في المرة الأولى كان طفلا فلما رأى الثلج في طست الذهب اعتقده ثلجا حتى عرف تأويله بعد . وفي المرة الأخرى كان نبيا فلما رأى طست الذهب مملوءا ثلجا علم التأويل لحينه واعتقده في ذلك المقام حكمة وإيمانا ، فكان لفظه في الحديثين على حسب اعتقاده في المقامين . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وقال النووي والحافظ : المعنى جعل في الطست شيء يحصل به الزيادة في كمال الإيمان وكمال الحكمة ، وهذا المملوء يحتمل أن يكون على الحقيقة ، وتجسد المعاني جائز كما جاء أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنها الظلة والموت في صورة كبش وكذلك وزن الأعمال ، وغير ذلك من أحوال الغيب . [ ص: 71 ]

                                                                                                                                                                                                                              وقال البيضاوي رحمه الله في شرح المصابيح لعل ذلك من باب التمثيل ، إذ تمثيل المعاني وقع كثيرا كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط- بضم العين المهملة ، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس .

                                                                                                                                                                                                                              وأشار النووي بقوله : جعل فيه شيء يحصل به زيادة في كمال الإيمان إلى آخره :

                                                                                                                                                                                                                              أنه صلى الله عليه وسلم كان متصفا بأقوى الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن عشر : المملوء الصدر أو البطن ففي رواية ذكر البطن وفي غيرها القلب . والظاهر أنهما ملئا معا وأخبر صلى الله عليه وسلم في رواية بالبطن وأخبر في أخرى بالقلب ، ويحتمل أن يكون أراد القلب وذكر البطن توسعة لأن العرب تسمي الشيء بما قاربه وبما كان فيه . وقد قال تعالى :

                                                                                                                                                                                                                              فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [الأنعام 125] والمراد بالصدر في الآية القلب فسماه باسم ما هو فيه وهو الصدر .

                                                                                                                                                                                                                              التاسع عشر : اختلف في تفسير الحكمة فقيل : إنها العلم المشتمل على معرفة الله تعالى مع نفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به والكف عن ضده ، والحكيم من حاز ذلك . قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : هذا ما صفا لنا من أقوال كثيرة . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وقد تطلق الحكمة على القرآن وهو مشتمل على ذكر ذلك كله ، وعلى النبوة كذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقد تطلق على العلم فقط وعلى المعرفة فقط ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحافظ : أصح ما قيل فيها : أنها وضع الشيء في محله والفهم في كتاب الله تعالى . وعلى التفسير الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان ، وقد لا توجد . وعلى الأول فقد يتلازمان لأن الإيمان يدل على الحكمة .

                                                                                                                                                                                                                              العشرون : قال بعض العلماء : المراد بالوزن في قوله «زنه بعشرة من أمته» الوزن الاعتباري ، فيكون المراد الرجحان في الفضل وهو كذلك . وهو فائدة فعل الملكين ذلك ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حتى يخبر به غيره ويعتقده ، إذ هو من الأمور الاعتقادية .

                                                                                                                                                                                                                              وسألت شيخ الإسلام برهان الدين ابن أبي شريف رحمه الله تعالى عن هذا الحديث [ ص: 72 ] قبل وقوفي على الكلام السابق فكتب لي بخطه : هذا الحديث يقتضي أن المعاني جعلها الله تعالى ذواتا فعند ذلك قال الملك لصاحبه : اجعله في كفة واجعل ألفا من أمته في كفة . ففعل فرجح ما له صلى الله عليه وسلم رجحانا طاش معه ما للألف بحيث يخيل إليه أنه يسقط بعضهم عليه ، ولما عرف الملكان منه الرجحان وأنه معنى لو اجتمعت المعاني كلها للأمة ووضعت في كفة ووضع ما له صلى الله عليه وسلم لرجح على الأمة ، قالا : لو أن أمته وزنت به مال بهم ، لأن مآثر خير الخلق صلى الله عليه وسلم وما وهبه الله تعالى له من الفضائل يستحيل أن يساويها غيرها . والله أعلم . [ ص: 73 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية