الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما تقديم هذه الدماء قبل وجوبها فهي على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما وجب في الإحرام .

                                                                                                                                            والثاني : ما وجب في غير الإحرام ، فأما ما وجب في غير الإحرام فدمان :

                                                                                                                                            أحدهما : جزاء صيد الحرم .

                                                                                                                                            الثاني : جزاء شجر الحرم ولا يجوز تقديم هذين الدمين قبل وجوبها : لأنه ليس لوجوبها سبب متقدم ، وأما ما وجب في الإحرام فلا يجوز تقديمه قبل الإحرام : لأن سبب وجوده غير موجود ، فأما بعد الإحرام فما وجب منها بترك نسك كدم الفوات ، ودم مجاوزة الميقات ، ودم الدافع من عرفة قبل غروب الشمس ، ودم ترك المبيت بمزدلفة ، ودم رمي الجمار ، ودم تارك المبيت بمنى ، ودم الصادر من مكة بلا وداع ، فلا يجوز تقديمه قبل وجوبه ؛ لأن النسك الذي يتعلق وجوب الدم به مأمور بفعله بعد تقديم الدم ، كما كان مأمورا بفعله قبل تقديم الدم ، فلم يجز أن يكون الدم الذي لم يؤمر به لعدم وجوبه بدلا من النسك المأمور به مع إمكان فعله ، وأما ما وجب لغير نسك فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما لا يجوز استباحة موجبه بحال ، وذلك الوطء فلا يجوز تقديمه قبل وجوبه . والثاني : ما يجوز استباحة موجبه بحال ، وهو دم الطيب واللباس ، وحلق الشعر وتقليم الظفر وجزاء الصيد ففي جواز تقديمه قبل وجوبه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو ظاهر قوله في الأم والإملاء أن ذلك يجزئ : لأنه حق في مال يتعلق وجوبه بشيئين ، وهما الإحرام والفعل ، فإذا وجد أحد سببيه جاز إخراجه قبل وجود السبب الآخر كالزكاة وكفارة اليمين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه لا يجزئ لأن الإحرام وإن كان أحد سببي وجوبه فليس يراد لوجوب الدم به ، وإنما يراد لغيره ، وهو إذا نسكه فلم يكن وجوده مبيحا لتقديم الدم قبل وجوبه ، كما أن الإسلام شرط في وجوب الزكاة ، ثم لا يجوز تقديم الزكاة مع وجود الإسلام [ ص: 229 ] وقبل وجود النصاب : لأن الإسلام ليس يراد لوجوب الزكاة ، وجاز تقديم الزكاة بعد وجود النصاب ، لأنه يراد لوجوب الزكاة والله أعلم .

                                                                                                                                            مسألة قال الشافعي رضي الله عنه : ولا يكون الطعام والهدي إلا بمكة أو منى ، والصوم حيث شاء ؛ لأنه لا منفعة لأهل الحرم في الصوم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وجملة ذلك أن الفدية الواجبة في الحج على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : إما أن يكون هديا .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون طعاما .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون صياما ، فأما الهدايا من سائر الدماء الواجبة في الحج فعليه إيصالها إلى الحرم ونحرها فيه وتفريقه لحمها على مساكينه لقوله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق [ الحج : 33 ] ، وقوله تعالى : هديا بالغ الكعبة [ المائدة : 95 ] ، وإذا كان هكذا لم يخل حالها من أربعة أقسام إما أن ينحرها في الحرم ويفرقها في الحرم ، أو ينحرها في الحل ويفرقها في الحل ، أو ينحرها في الحل ويفرقها في الحرم .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : وهو أن ينحرها من الحل ويفرق لحمها من الحرم . فأما القسم الأول : وهو أن ينحرها في الحرم ويفرق لحمها طريا في الحرم ، فهو الواجب المجزئ إجماعا ، ويستحب أن ينحرها من الحرم في الموضع الذي يتحلل فيه ، فإن كان معتمرا فعند المروة ؛ لأنه موضع تحلله ، وإن كان حاجا فبمنى : لأنه موضع تحلله ، وأين نحر منه فجاج مكة وسائر الحرم أجزأه ؛ لأن حرمة جميعه واحدة ، وقد روى جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرفة كلها موقف ومزدلفة كلها موقف ، وفجاج مكة كلها موقف ومنحر . ويستحب أن يخص بها من كان قاطنا في الحرم دون ما كان طارئا إليه ؛ لأن القاطن فيه أوكد حرمة من الطارئ إليه ، فإن فرقها على الطارئين إليه دون القاطنين أجزأه : لأنهم قد صاروا من أهل الحرم بدخولهم إليه ، وليس لما يعطي كل واحد منهم قدر معلوم ولا عدد من يعطيه معلوم ، فلا يجوز أن يعطي أقل من ثلاثة مساكين ما كان يقدر عليهم لأنهم أقل الجمع المطلق .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو أن ينحرها في الحل ويفرقها في الحل ، فهذا غير مجزئ إجماعا ، إلا دم الإحصار فإنه يجزئه نحره في الموضع الذي أحصر فيه : لأنه موضع تحلله على ما سنذكره ، فأما غير دم الإحصار من سائر الدماء الواجبة فلا تجزئ ؛ لأنها لم تبلغ محلها ، ولا فرقت في مستحقيها .

                                                                                                                                            [ ص: 230 ] وأما القسم الثالث : وهو أن ينحرها في الحرم ويفرق لحمها في الحل ، فلا يجزئه عندنا سواء فرقه في الحل على فقراء الحرم أو فقراء الحل ، وعليه إعادة الهدي . وقال أبو حنيفة : يجزئه استدلالا بقوله تعالى : هديا بالغ الكعبة [ المائدة : 195 ] فكان الظاهر يقتضي إبلاغ الكعبة فيجزئ ، وهذا هدي قد بلغ الكعبة ، فوجب بحق الظاهر أن يجزئ ولأنه جبران لنسكه ، فجاز الإتيان به في الحل والحرم كالصوم ؛ ولأنه موضع يجوز فيه صومه عن نسكه ، فجاز فيه تفريق هديه كالحرم .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : هديا بالغ الكعبة [ المائدة : 95 ] ، والمراد بالكعبة الحرم ، فلما حض الله تعالى بإيصال الهدي إليه ، لم يخل أن يكون مخصوصا بالتفرقة دون الإراقة ، أو بالإراقة دون التفرقة ، أو بالإراقة والتفرقة ، فلم يجز أن يكون مخصوصا بالتفرقة دون الإراقة : لأنه لا يكون هديا بالغ الكعبة ، وإنما يكون لحما بالغ الكعبة ، ولم يجز أن يكون مخصوصا بالإراقة دون التفرقة ؛ لأنه لا يفيد إلا تنجيس الحرم ، وتنجيس الحرم ليس بقربة ، بل صيانة الحرم عن الإنجاس قربة ، فثبت أنه مخصوص بالإراقة والتفرقة : لما في نفع مساكين الحرم من عظم القربة ؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم وفرق لحمه على مساكينه ، وقال : خذوا عني مناسككم ؛ ولأن إراقة الهدي وتفريقه مقصود ثان معا ، أما الإراقة فهي مقصودة : لأنه لو اشترى في الحرم لحما وفرقه لم يجزئه ، وأما التفرقة فهي مقصودة ؛ لأنه لو نحر هديه ثم استهلكه لم يجزه ، وإذا كانت الإراقة والتفرقة مقصودتين ، ثم لم تجز الإراقة إلا في الحرم ، وجب أن لا تجز التفرقة إلا في الحرم .

                                                                                                                                            وتحرير ذلك قياسا : أنه أحد مقصودي الهدي ، فوجب أن لا يجزئ إلا في الحرم كالإراقة : ولأن الأصول في الحج موضوعة على أن كل نسك اختص شيء منه بالحرم ، اختص جميعه بالحرم كالطواف والسعي والرمي ، وكل نسك لم يختص شيء منه بالحرم ، لم يختص جميعه بالحرم كالوقوف بعرفة ، فلما كان شيء من الهدي مختصا بالحرم وجب أن يكون جميعه مختصا بالحرم .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الصوم ، فالمعنى فيه أنه لا يختص شيء من أسبابه بالحرم ، فلذلك جاز في غير الحرم ، ولما اختص شيء من الهدي بالحرم اختص جميعه بالحرم .

                                                                                                                                            أما قياسهم على الحرم فالمعنى في الحرم أن الإراقة فيه تجزئ فجازت التفرقة فيه ، والحل لما لم يجز الإراقة فيه ، لم تجز التفرقة فيه .

                                                                                                                                            وأما القسم الرابع : وهو أن ينحرها في الحل ويفرق لحمها في الحرم فمذهب الشافعي أنه لا يجزئ .

                                                                                                                                            وقال بعض أصحابنا يجزئ التفرقة في أهل الحرم ، وهذا خطأ خالف به نص المذهب ومقتضى الحجاج : لرواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 231 ] فجاج مكة كلها طرق ومنحر . فخص النحر بموضع مخصوص ، فعلم أنه لا يجوز في غيره ؛ ولأنه أحد مقصودي الهدي ، فوجب أن لا يجزئ إلا في الحرم كالتفرقة ، وما ذكروه من حصول التفرقة في أهل الحرم ففاسد بمن اشترى لحما وفرقه في أهل الحرم ، فعلم أن الإراقة مقصودة مع التفرقة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية