الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونحن نبين ذلك بالوجه الثالث: فنقول: إذا أثبتم للعالم وعلته المعشوقة له، التي يجب التشبه بها، وتتحرك لاستخراج ما فيه من الأيون والأوضاع؛ لأن ذلك غاية التشبه بها. فإما أن تقولوا: هذا واجب الوجود بنفسه، أو تقولوا: إن أحدهما ممكن بنفسه، لا يوجد إلا بالواجب بنفسه.

فإن قلتم بالأول، ثبت أن العالم المحتاج إلى محبوبه واجب الوجود بنفسه، مع كونه معلولا من هذه الجهة، وكونه ذي إرادة وشوق، وكونه يؤثر آثارا ويفعل أفعالا بالإرادة. [ ص: 299 ]

وقد قلتم: إن هذا لو كان في الأول لكان نقصا يحتاج فيه إلى تمام من خارج، فقد أثبتم في الواجب بنفسه نقصا يحتاج فيه إلى تمام من الخارج، فإن كان هذا جائزا في الواجب بنفسه، لم يمتنع هذا في الأول المعشوق، بل جاز مع وجوبه بنفسه أن يكون أيضا عاشقا مريدا مؤثرا فاعلا، فيه على أصلكم نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج.

وإذا كان هذا غير ممتنع في الواجب بنفسه، بطل ما ذكرتموه من امتناع ذلك عليه.

وأيضا فإذا جاز ذلك عليه، لم يكن أحدهما بكونه عاشقا والآخر معشوقا أولى من العكس، بل يمكن أن يكون كلاهما محبا للآخر مشتاقا إليه.

وبتقدير أن يكون هو المحب للعالم المريد له، يكون هو المحدث لما فيه من الحركات.

ثم على هذا التقدير لا يجب أن تكون الأفلاك هي الواجبة بنفسها، بل يمكن أن يقال: هناك واجب بنفسه غيرها، ثم إن أحد الواجبين أحدث الأفلاك لما حدث له من الشوق، كما تقولون فيما يحدث بحركة الفلك.

وفي الجملة إذا قالوا: إن العالم واجب الوجود بنفسه، نقضوا كل ما ذكره في المبدأ الأول، ولم يكن لهم حجة على الطبيعية الذين ينكرون الأول.

والطبيعية الذين يقولون: العالم واجب بنفسه، قولهم أفسد من قول هؤلاء الإلهيين منهم كلهم، كما قد بين فساد قولهم في غير هذا الموضع. [ ص: 300 ]

لكن فساد أقوالهم يظهر من وجه آخر، من غير التزام صحة قول الإلهيين بل قول كلا الطائفتين باطل متناقض، يعلم بطلانه وتناقضه بصريح العقل.

وإن قال هؤلاء الإلهيون: إن العالم ممكن الوجود بنفسه، فلا بد أن يكون هناك واجب، هو علة فاعلة له، لا يكفي في وجوده ما هو مشتاق إليه، فإن ما لا وجود له من نفسه، ليس له من نفسه لا صفة ولا شوق ولا حركة ولا شيء من الأشياء، فلا بد لكم من إثبات مبدع للممكن، قبل إثبات شوقه إلى غيره، ثم يبقى النظر بعد ذلك في قدمه وحدوثه نظرا ثانيا.

التالي السابق


الخدمات العلمية