الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
حقيقة الإيمان

من المعلوم أن الإيمان هـو نبع الفطرة في صدقها وصفائها.. وإذا صدق الإيمان في القلب. كان لذلك آثاره في عقيدة المؤمن وشعوره، وفي صلته بالله تعالى، وفي جهاده في الحياة، فلا يقبل إلا الحق، ولا يعبد إلا الله، ولا يخشى في الله لومة لائم، ولا يرتبط بالباطل في قول أو عمل، بل يكون شهيدا على الناس من حوله. يرشد ضالهم. وينصح مخطئهم، ويعطيهم من نفسه المثل والقدوة، بأخلاقه وسلوكه، مؤثرا فيهم بما في قلبه من النور واليقين. غير متأثر بما لدى بعضهم من باطل.

وصاحب الإيمان الصادق لا تزيده الأيام إلا يقينا، فإن أصابه خير شكر ربه، وأدى حق الله في نعمته، وإن أصابه شر حمد الله، ورضي بقضائه، ولا يضعف ثقته بالله شيء.

قال تعالى في سورة الحجرات: ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هـم الصادقون ) (الحجرات:15)

وقال تعالى في سورة الأنفال: ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هـم [ ص: 101 ] المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) (الأنفال:3-4) روى الإمام أحمد ( عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والذي إذا أشرف على طمع تركه لله عز وجل ) [1] .

وكما أن الخوف من الله ومراقبة جلاله أثر من آثار الإيمان الصادق، فإن حب الله وحب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحب الإسلام كمنهج للحياة بحيث لا يربو على هـذا الحب شيء أبدا، يدل على صدق الإيمان كذلك، وعمقه في ضمير المؤمن.

ولا شك أن الإيمان الصادق العميق، يحيا به ضمير المؤمن، وتسلم به اتجاهاته، فبينما يتخبط الملايين في دياجير الظلام الحالك، وسبل الضلال، ترى المؤمن بوحي من تفاعل الإيمان في كيانه مرهف الحس، صادق العزم، صالح العمل، لا تستذله الحياة وما فيها، ولا تعصف به الشدائد مهما بلغت حدتها.

قال تعالى في سورة الزمر: ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هـدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل [ ص: 102 ] الله فما له من هـاد ) (الزمر:23) . فقوة الإيمان في نفس المؤمن، ترفع مقتضيات الإيمان فوق كل شيء، وتجعل المؤمن وثيق الرابطة بما يمليه عليه إيمانه، لا يشغله عن ذلك شاغل.. ومهما اشتد البلاء، فإن المؤمن لا يزداد إلا ثباتا ويقينا، ذلك لأن قوة الإيمان في القلب، تمد المؤمن في كل أحواله بنور الاهتداء، وكمال الرجاء. ذلك شأن المؤمن في كل أموره، في عبادته لله، وذكره إياه، وفي حرصه على مرضاة الله، مهما تكاثرت عليه مشاغل الحياة، وفي خضوعه دائما لأمر الله وحكمه، وفي كمال ثقته بالله، قولا وعملا، وقلبا، وجسدا، وعقيدة، وسلوكا، كذلك من شأنه ألا يهادن أهل الباطل، أو يلين في مقاومتهم.

ومن المعلوم أن الإيمان ليس كلمة تقال وكفى.. وليس شعارا يطرح ثم ينفذ أو لا ينفذ.. وإنما هـو أولا وقبل كل شيء عقيدة تخالط شغاف القلوب، وتسري مع الدم في العروق، لا يدركها ريب، ولا يلحقها شك أبدا، وهذه العقيدة لا تكون صحيحة كاملة، ولا تكون سليمة تامة، إلا إذا أتت ثمراتها الطيبة سلوكا مستقيما، وأخلاقا طاهرة، وأعمالا رشيدة، ومن ثم لم يذكر الإيمان في القرآن الكريم إلا مقرونا بالعمل الصالح مثل قول الله تعالى في سورة يونس: ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ) (يونس:9) [ ص: 103 ] وهكذا يتبين للمسلمين أن الإيمان ليس قولا بلا حقيقة، وليس ادعاء بغير دليل أو برهان، ولقد فهم المسلمون القرآن الكريم وتشربوه في قلوبهم، وتمثلوه في نفوسهم، وجسدوه في أعمالهم، فكانوا بذلك مثار العجب في يقينهم الثابت، ونشاطهم الدائب، وسلوكهم الفاضل، وأخلاقهم العظيمة، وعمارتهم للأرض، وعبادتهم لله، تجاوبا بذلك كله مع حقيقة الإيمان، فدانت لهم الدنيا، وامتلكوا زمام الجاه، والسلطان، والقوة، وتبوءوا قمم المجد، وصاروا في أسمى مراتب الحياة الحرة الكريمة.

وشاءت إرادة الله تبارك وتعالى، أن تكون الأمة الإسلامية، خير أمة أخرجت للناس، تحمل الأمانة، وتنشر أنوار الحق، وتأخذ بيد الناس إلى أقوم طريق، وأهدى سبيل.

وكلما كان الإيمان عميقا في الصدور أحس المؤمن بذاته، وأحسن النظر إلى واجباته ومسئولياته.

وإذا كان المجتمع البشري يموج بعضه في بعض، تحركه أمواج عاتية من الفتن والضلال، فإن أهل الإيمان يشعرون إزاء ذلك بأمرين:

الأمر الأول: أن يستمسكوا بالحق جاهدين في العمل به وحمايته.

الأمر الثاني: حماية أنفسهم من أن يجر فهم تيار الفتن، الذي يحيط بهم.

وأمر ثالث: لضمان مسيرتهم: أن يكونوا مثالا حيا صادقا لمبادئ دينهم، ليرى فيهم الناس ما يدعو إلى هـيبتهم واحترام دينهم، ولتكون مثاليتهم في حياتهم أكبر داع إلى الله ورسوله.

قال تعالى في سورة آل عمران: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس [ ص: 104 ] تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110) . وإذا كان خير المقال ما صدقه الفعال، فإن الإسلام يوجب على الأمة أن تحمل دعوة الحق إلى الناس، وتسوسهم برفق إلى صراط مستقيم، قال تعالى في سورة آل عمران: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) (آل عمران: 104) .

وإن قوة الإيمان بما تفيض على النفس من طمأنينة، ويما تعطي المؤمن من الاندفاع الواثق في طريق الحق، منفعلا به داعيا إليه، معتزا بما لديه، لا يحيد عنه، ولا يقصر فيه، هـي أعلى ما اكتسب الإنسان لأنها صمام الأمان من غضب الله، وضمان النصر للمعتصمين بالله، وسبيل النجاة من عذاب الله في دار الجزاء؛ بهذا يحس كل مؤمن إحساسا يجعله أقوى من أن يهزم أمام الباطل، أو يضعف في مواجهة فتنة، أو يستسلم لهوى، أو يستمرئ معصية.

والمسلمون اليوم في أمس الحاجة إلى هـذا الإيمان الكامل. الإيمان الذي يقتضي من المؤمن أن يتخذ سبيلا إلى الله عز وجل ،

فتجيء أعمال المسلمين وفق عقيدتهم. فلا يرهبون من أحد أبدا، ولا يذلون إلا لسلطان الله، ولا يعملون من عمل إلا وهم يريدون به وجه الله سبحانه وتعالى . يفعلون ما أمر به جل جلاله، وينتهون عما نهى عنه، يذوبون رحمة لإخوانهم المؤمنين، فيواسون الفقير، ويجبرون الكسير، [ ص: 105 ] ويقومون الضعيف، ويشدون العزائم، ويستنهضون الهمم، ويكونون دائما عونا لإخوانهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، و يتفجرون شدة على أعداء الإسلام، فيجاهدونهم بالقلب واللسان والمال والنفس، يفلون عزيمتهم، ويكسرون شوكتهم، ويعملون جاهدين على ألا يكون لأعداء المسلمين سبيل على المؤمنين، لا في أنفسهم، ولا في أموالهم، ولا في أعراضهم، ولا في أوطانهم. [ ص: 106 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية