الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الحـوار الحضـاري

مفهوم الحوار

بداية يحسن بنا أن نعرض لمفهوم الحوار. ومفهوم الحضارة. حتى نتعرف على حوار الحضارات، وننطلق لرؤية واضحة، تكشف عن ضرورة الحوار للإنسان وحاجة الإنسان إليه.

والحوار: الرجوع عن الشيء، والى الشيء، يقال: حار إلى الشيء وعنه حورا ومحارا ومحاورة: رجع عنه وإليه، وفي الحديث: ( من دعا رجلا بالكفر، وليس كذلك حار عليه ) أي رجع إليه ما نسب إليه. والمحاورة، مراجعة المنطق، والكلام في المخاطبة [1] . قال تعالى: ( قال له صاحبه وهو يحاوره ) (الكهف:37) أي وهو يراجعه الكلام ويجادله [2] .

والتحاور: التجاوب؛ لذلك كان لا مندوحة في الحوار من متكلم ومخاطب، ولا بد فيه من مراجعة الكلام، وتبادله وتداوله.

وغاية الحوار توليد الأفكار الجديدة في ذهن المتكلم. لا الاقتصار على عرض الأفكار القديمة، وفي هـذا التجاوب توضيح للمعاني، وإغناء للمفاهيم يفيضان إلى تقدم الفكر [3] . [ ص: 107 ]

وإذا كان الحوار تجاوبا بين الأضداد، كالمجرد والمشخص، والمعقول والمحسوس، سمي جدلا. والجدل هـو النقاش والخصومة. وهو منطقيا: قياس مؤلف من مقدمات مشهورة أو مسلمة، وغرضه إلزام الخصم وإفحام من هـو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان. [4]

والجدل أصلا: هـو فن الحوار والمناقشة، قال أفلاطون : الجدلي هـو الذي يحسن السؤال والجواب، وغايته الارتقاء من تصور إلى تصور، ومن قول إلى قول، للوصول إلى أعم التصورات، وأعلى المبادئ.

واقتبس المحدثون عن أفلاطون. فأطلقوا الجدل على: الارتقاء من المدركات الحسية إلى المعاني العقلية، ومن المعاني المشخصة إلى الحقائق المجردة، ومن الأمور الجزئية إلى الأمور الكلية.

وقبل أفلاطون زعم سقراط: أن العلم لا يعلم، ولا يدون في الكتب. بل يكشف بطريق الحوار [5] . ويذكر العلماء: أن قاعدة القواعد في النظام الكوني هـي حوار الكائنات، ليأخذ بعضها من بعض، ويعطي بعضها بعضا كما هـي طبيعة الحاجة، فيكون الانسجام والشد، والعقد، والاستمرار.

فالحوار ليس قاصرا على الكلمات اللسانية المسموعة، إنما قد يتجاوز إلى الإشارة الموضحة، والبسمة المشرقة، والحس الخافق، والدورة المقبلة، والعمل الصالح، والموقف الصالح، حتى الصمت، لا يبعد أحيانا أن يتأتى حوارا. [ ص: 108 ] ومن البدهة القول: بأن الإنسان كائن عقل واجتماع، كائن علاقة وحاجة، ومن البداهة القول: إن هـذه الأحوال من أحوج حاجاتها اللقاءات المتحاورة؛ ليكون المجتمع على بينة من أمر علاقاته، وعلى تناسق مؤتلف، وتفاهم واع، وترابط معقود. كما الكون بقوانينه وأنظمته التي تجعله يحفظ بعضه بعضا، ويستمر بعضه ببعض [6] وهذا هـو أصل مفهوم الحوار.

أما الحضارة: فإنها مأخوذة من الحضر، والحضر خلال البدو، والحاضر خلاف البادي، وفي الحديث: (لا يبع حاضر لباد) الحاضر المقيم في المدن والقرى، والبادي المقيم بالبادية. ويقال: فلان من أهل الحاضرة، وفلان من أهل البادية، والحضارة - بكسر الحاء - الإقامة في الحضر، وكان الأصمعي يقول: الحضارة بالفتح. قال القطامي :

فمن تكـن الحضارة أعجبتـه فـأي رجال باديـة تـرانـا

والحضر والحاضرة: خلاف البادية. وهي المدن والقرى والريف، سميت بذلك، لأن أهلها حضروا الأمصار، ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار [7] . إذن أهل الحضر يوصفون بأنهم أهل القرار، كما يقال: قراري للحضري الذي لا ينتجع ولا يتنقل طلبا للكلأ في مواضعه. كذلك يوصف أهل الحضر بأنهم (أهل المدر) وهو قطع الطين المتماسك. أو أهل الحجر، لأنهم يسكنون بيوتا متينة ثابتة، [ ص: 109 ]

خلافا لأهل الوبر، الذين يسكنون الخيام من وبر الإبل، أو صوف الغنم، أو شعر الماعز [8] .

ومفهوم كلمة (الحضارة) مفهوم متطور مع الزمن، لا سيما في تاريخ الحياة العربية. ولقد عرف العرب الفارق، بين حياة البادية، وحياة الحضر، منذ كانت بادية، ومنذ كان حضر. ولكن أول من تصدى لهذا التمييز على أساس الدراسة الواعية، هـو العلامة عبد الرحمن بن خلدون [9] . بل إن هـذا العالم، هـو أول من عالج شئون الحضارة العربية بطريقة علمية، ويرى: أن الحضارة هـي النمط من الحياة المستقرة، والذي يناقض البداوة، ويضفي على حياة أصحابه فنونا منتظمة من العيش، والعمل، والاجتماع، والعلم، والصناعة، وإدارة شئون الحياة، والحكم، وترتيب وسائل الدعة، وأسباب الرفاهية [10] .

والحضارة عند ابن خلدون طور طبيعي أو جيل من أجيال طبيعية في حياة المجتمعات المختلفة، وأنها غاية العمران. [11] ويقول: إن الحضارة في الأمصار من قبل الدول، وأنها ترسخ باتصال الدول ورسوخها، إنها أحوال زائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرقة، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة، تفاوتا غير منحصر، ويقع عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون [ ص: 110 ] بمنزلة الصنائع ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه، والمهرة فيه. [12]

والباحث يجد أن مفهوم الحضارة في العصور المتأخرة، قد امتد إلى ألوان من المعنى، هـي أبعد وأوسع مما رآه ابن خلدون في عصره، وفي البيئة العربية، وفي انتقالها الاجتماعي والسياسي والمدني من البادية إلى الحضر. إن لفظ الحضارة في مفهومه العام والحديث المعاصر بصفة خاصة، قد أصبح أكثر اتساعا، مما يدل عليه اللفظ في مفهومه اللغوي التقليدي. ولذا جاء في المعاجم الحديثة: أن الحضارة هـي الرقي العلمي، والفني، والأدبي، والاجتماعي والاقتصادي في الحضر. وبعبارة أخرى أكثر شمولا هـي: الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة والفكر، ومجموع الحياة في أنماطها المادية والمعنوية، ولهذا كانت الحضارة، هـي الخطة العريضة كما وكيفا، التي يسير فيها تاريخ أمة من الأمم. ومنها الحضارات القديمة والحضارات الحديثة والمعاصرة، ومنها الأطوار الحضارية الكبرى، التي تصور انتقال الإنسان، أو الجماعات من مرحلة إلى مرحلة [13]

فالحضارة بكل بساطة، معناها: بذل المجهود، بوصفنا كائنات إنسانية، من أجل تكميل النوع الإنساني، وتحقيق التقدم من أي نوع كان في أحوال الإنسانية، وأحوال العالم الواقعي.

إن الحضارة تنشأ حينما يستلهم الناس عزما واضحا صادقا عن بلوغ التقدم، ويكرسون أنفسهم تبعا لذلك، لخدمة الحياة [ ص: 111 ] وخدمة العالم [14]

والحضارة باختصار شديد: هـي جملة المظاهر المعنوية التي يخلفها التاريخ، والتي تبقى في المجتمع على مر الأيام، دليلا على القدرات الذهنية المميزة، وتعبيرا، عن روح هـذا المجتمع والشعب، الذي يمثله. ولا شك أن المظاهر المعنوية، تأخذ قوالب مادية مختلفة، تتجسم فيها تلك المعنويات، وتشكل المظاهر المعنوية في صور مختلفة كالفنون والآداب والعلوم والمعارف. ومجموع ما ينتج عن ذلك كله من تسجيلات ومشاهد في الآثار والعمائر وأسلوب الحياة، وآداب المعاش اليومي [15] .

لقد عرف العلماء الحضارة تعاريف متباينة، وتحدثوا عنها من وجهات نظر مختلفة، ولما كانت الحضارة إنسانية النشأة، كان علينا أن نختار من تعريفات الحضارة المتعددة تعريفا ذكره العلامة الفرنسي ( جورج باستيد ) جاء فيه: أن الحضارة هـي التدخل الإنساني الإيجابي لمواجهة ضرورات الطبيعة، وتجاوبا مع إرادة التحرر في الإنسان، وتحقيقا لمزيد من اليسر في إرضاء حاجاته ورغباته، وإنقاصا للعناء البشري [16]

فالسلوك الإنساني الذي ينتج الحضارة، هـو استجابة لتحد من ظروف الطبيعة، يكون هـو المثير والدافع والحافز للإنسان كي يتغلب على ما يواجهه، ومن ذلك عوامل في طبيعة الإنسان نفسها مثل حاجاته للطعام، والشراب، والدفء، والاستقرار، والأمن، [ ص: 112 ] وهناك منافسة الإنسان الآخر له، على ذلك: ثم ما يكون من قصور ظروف بيئته المادية عن تلبية هـذه الحاجات [17] .

فالحضارة تحقيق للراحة الإنسانية، في جوانبها المتعددة، المتقابلة المتكاملة، جسدية، وعقلية، ونفسية، وروحية، والسلوك الحضاري هـو جواب الإنسان على التحدي الموجه له؛ تحدي الطبيعة المادية من جهة، وتحدي حاجاته هـو من جهة أخرى، وتحدي الإنسان الآخر أو المجتمع من جهة ثالثة؛ ويأتي هـذا الجواب الإنساني في شتى مجالات الآداب، والعلوم، والفنون. كما تشمل أيضا صور الإنتاج المادي من عمائر، وطرق، وجسور، وقناطر، وغيرها. ومن مجالات الحضارة العقائد والعوائد والأدب الشعبي، وأدب الخاصة، أو الأدب الرفيع، والنظم السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية كما لا يخرج عنها تخطيط المدن والعمارة ووسائل النقل، وأساليب المأكل والمشرب والزينة والترفيه. [18]

والحضارة على أي حال، تمثل كل مظهر من مظاهر الإنتاج البشري، وغالبا ما يحدوها سلوك الإنسان وطرق معيشته وتفاعله مع البيئة. لذا كان من الطبيعي أن تختلف كل حضارة في مظاهرها عن الحضارات الأخرى، فلكل حضارة من الحضارات قديمها وحديثها مظاهر مميزة. [19] [ ص: 113 ]

والعقل البشري استطاع بما اكتسب من خبرة ودربة، ومرانة، أن يصنف المعارف الإنسانية، وأن يحكم ما بينها من وشائج، وأن يستفيد بما بينها من صلات وروابط. والنتائج العلمية متصل بعضها ببعض ويعتمد بعضها على بعض. والحضارات الإنسانية، ليست ملكا لأمة بعينها، ولا هـي وقف على جماعة من الناس. لأنها صرح هـائل قد أسهمت فيه كل أمة بنصيب. والحضارات الإنسانية قد تتشابه في مظهرها، وفي عناصرها، وفي أسلوبها، ولا سيما إذا تعايشت في وجهات متقاربة، والحضارات الإنسانية سلسلة محكمة متينة الحلقات، يؤثر سابقها في لاحقها، ويتأثر حاضرها بماضيها، وينتفع بعضها من بعض [20] .

ولقد تواجدت حضارات مختلفة في الزمان والمكان، وانتفعت من بعضها انتفاعا أدى إلى تقدمها عند الكثير.

وتشكل الحضارة مجموعة الصفات، والمزايا المشتركة لمجتمع، أو لمجموعة من المجتمعات، وهذه الصفات تمثل مجموع الحلول التي أوجدتها أو تبنتها مجموعة اجتماعية ما، تندمج بشكل عام، في جو واسع جدا، ومكان جغرافي طويل جدا من التاريخ.

وتستخدم هـذه الأساليب المادية، والتقنية، والمفاهيم لحل جميع المشاكل، التي يطرحها وجود هـذه المجموعة: الاتصالات، وإصلاح وتوزيع الأراضي، واستثمار الثروات، وكذلك الحياة الاقتصادية، والفكرية، والسياسية، والدينية.

وكل المجموعات البشرية، تعمر صدورها الرغبة بالحياة والخلود، [ ص: 114 ] وهذا العامل عنصر غير مادي، وهو ضروري لكل حضارة، لكي تولد، وتحيا، وتتطور، وجميع العناصر المكونة للحضارة متفاعلة فيما بينها باستمرار، وتتطور بوتائر متفاوتة بين السرعة والبطء.

وإن أول ما يسترعي انتباه المراقب، الذي ينظر للحضارة من الخارج، هـو صفاتها الجمالية، وإدراكها للجمال بشكل عام، والأساليب الفنية المعبرة عنه. ولا يخفى أن الحوار الحضاري، يتم من أجل الصفات الجمالية في الحضارة.

وتعتبر المنشآت المادية، والأدوات والتماثيل والكتابات، ذات أهمية خاصة بالنسبة لمفاهيم الجمال في كل حضارة. ويأتي بعد علم الجمال كل ما له علاقة بالحياة المادية، كفن الطبخ، وطريقة التغذية، وصناعة الفخار، والأواني، والأدوات المنزلية، والمفروشات، والمنشآت والأدوات والآلات والأسلحة، حيث يتم الجمع بين الفائدة المباشرة، والصفة الجمالية.

والفاحص المدقق يجد أن تيار الفكر الحضاري الإنساني يتخذ طابعا واحدا، لا ينحو كثيرا عن تاريخ الإنسان ذاته. فالحضارات والثقافات المختلفة تتفاعل مع بعضها. فتنتج للإنسان ما يشبع حاجته الفكرية والمادية. وبذا فإن الحضارات الإنسانية على مر العصور تكون كلا متماسكا. يترابط بنيانه العضوي كحلقات السلسلة الواحدة، التي لا تنفصم الواحدة منها عن الأخرى.

ولا يمكن أن تكون كل حضارة نشأت بمعزل عن غيرها من الحضارات الأخرى. أو أنها لم تتفاعل معها. ونظرتنا الأساسية تقوم [ ص: 115 ] على أن الحضارات تأخذ وتعطي. تأخذ ما يتفق مع طبيعة البنيان العقلي والفكري للأمة وتعطي ما تجود به نوعيتها ونشاطها الفعال. وبطبيعة الحال فإن هـذا التفسير أقرب إلى فهم روح الفكر، والنشاط الإنساني المتصل الذي بدأ تاريخه ومسيرته مع بداية الإنسان على هـذه الأرض [21] .

ولا يخفى أن النشاط العقلي، والإنتاج الحضاري، لا بد وأن يستند إلى أدلة ملموسة، والأدلة في هـذه الحالة، إما مادية مثل النقوش والمعابد، والآثار والمنشآت، وكل شكل الإنتاج التكنولوجي. وإما فكرية مثل الوثائق، والمؤلفات، والكتب، والنظريات العلمية، والآراء المدونة كتابة.

أما فيما يتصل بالأدلة المادية، فإنها ميدان اهتمام التاريخ وباحثيه، وعلماء الآثار، ودارسيها. فدراسة هـؤلاء تفسير الحضارة الإنسانية بالأدلة المادية، التي تميز حضارة من الحضارات عن غيرها. على حين أن الفلاسفة ومؤرخي العلم، يهتمون بصورة أساسية بالنشاط الفكري، والنظريات والآراء، وتطور الأفكار، التي يقومون على تحليلها ونقدها، ثم محاولة تفسيرها من خلال عملية التركيب المنطقي، للوقوف على الفلسفة الكامنة في باطن الفكرة ذاتها. [ ص: 116 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية