الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الحـوار الحـضـاري:

إن الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه خليفة الله في الأرض. قال تعالى: ( إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة:30)

وقد فضل الله الإنسان وكرمه. كما وضح ذلك في قوله تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70) وهذه الكرامة التي اختص الله بها الإنسان ذات أبعاد مختلفة. فهي حماية إلهية للإنسان، تنطوي على احترام حريته، وعقله، وفكره، وإرادته.

وهذه الكرامة تعني في النهاية، الحرية الحقيقية، وهي تلك الحرية الواعية المسئولة التي تدرك أهمية تحملها أمانة التكليف والمسئولية. التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ) (الأحزاب:72)

وإذا كان الله قد اختص الإنسان بالتكريم، وجعله مكلفا ومسئولا، فإنه من ناحية أخرى قد خلق له هـذا الكون، بما فيه، ليمارس فيه نشاطاته المادية، والروحية على السواء. [ ص: 117 ]

يقول الله تعالى: ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الجاثية:13)

والتفكير الذي تنص عليه الآية هـنا أمر جوهري لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان [1] .

فإنه إذا كان الله قد سخر للإنسان هـذا الكون. فلا يجوز له أن يقف منه موقف الامبالاة، بل ينبغي عليه أن يتخذ لنفسه منه موقفا إيجابيا، وإيجابيته تتمثل في درسه، والنظر فيه، للاستفادة منه، بما يعود على البشرية بالخير.

والاستفادة من كل المسخرات في هـذا الكون، لا تكون إلا بالعلم والدراسة والفهم.

والنظر في ملكوت السماوات والأرض على هـذا النحو، سيؤدي إلى الرقي المادي، وفي الوقت نفسه، إلى الرقي الروحي [2] . والحضاري.

والحضارة الإسلامية هـي عمارة الأرض، وترقية الحياة على ظهرها خلقيا، وعلميا، وأدبيا، وفنيا، واجتماعيا، وفق منهج الله وشريعته.

وبناء على هـذا المفهوم. فإن المجتمع الإسلامي - وهو المجتمع الذي يطبق شريعة الله في كل جوانب الحياة - هـو وحده المجتمع المتحضر. [ ص: 118 ] والمجتمع المتحضر [3] هـو الذي تكون القيم الإنسانية، والأخلاق الإنسانية التي يقوم عليها، هـي السائدة فيه. وهذه القيم هـي التي تنمي خصائص إنسانية الإنسان، وهي التي تميزه عن غيره من المخلوقات [4] .

وهذه القيم إنما هـي قيم إنسانية، ذات ميزان ثابت. وهي مقررة في الشريعة الإسلامية منذ جاءت، وما على الإنسان إلا أن يمضي في بنائها وصيانتها في كل المجتمعات التي يقيمها، حضرية كانت أم بدوية؛ صناعية كانت، أم زراعية، فالمهم في كل الأحوال هـو الارتقاء صعدا بالحقائق الإنسانية وحراستها من النكسة إلى الحيوانية التي تؤدي إلى التخلف.

إن الحضارة الإسلامية تقوم بهذه القيم، وبهذه الأخلاق، في كل مكان، وفي كل بيئة. أما أشكالها وصورها المادية، فهي كثيرة ومتنوعة، لأنها في كل بيئة تستخدم المقدرات والمعطيات الموجودة بها فعلا، وتنميها وفقا لميزان الله الثابت، وقيم الإنسان المقررة في شريعة الله [5] .

فالإسلام حين يدخل المجتمعات البدائية ينشئ الحضارة المناسبة لهذا المجتمع. وحين يدخل المجتمعات المتقدمة صناعيا أو زراعيا أو غير ذلك، فإنه يستخدم كل ما لديها من معطيات. ويقيم حضارة [ ص: 119 ] هذه المجتمعات مستفيدا مما لديها.

وإذا كان هـذا هـو مفهوم الحضارة الإسلامية، فإن التخلف الحقيقي -في مفهوم المجتمع الإسلامي المتحضر- هـو تحويل منجزات العلم الهائلة إلى قوى باغية للتدمير والتسلط، وتسخير إمكانيات العلم غير المحدودة في نشر الفوضى والعادات غير الخلقية بدلا من استخدامها في إعلاء القيم الإنسانية، وفي خدمة الإنسان دون بغي أو ظلم أو تحكم أو إبادة.

إن مهمة العلم في مفهوم المجتمع الإسلامي المتحضر ليست قهر الطبيعة أو الانتصار عليها، بل التلطف مع الطبيعة، والجد في اكتشاف قوانين الله فيها [6]

وإذا كان هـذا هـو عمل الإسلام حينما ينشئ حضارة، فإن هـذه الحضارة التي دعا إليها الإسلام تتميز بأنها منفتحة الحدود الفكرية، والنفسية، والمادية.

والنصوص الإسلامية التي تعلن هـذه الحقائق كثيرة. منها:

- ( عن أبي هـريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة. ) [7] .

-وعن أبي هـريرة - رضي الله عنه - قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، ) [ ص: 120 ] ( أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. ) [8]

- ( وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فلسطه على هـلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ويعلمها. ) [9] .

- ( و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحكمة: الإصابة في غير النبوة. ) [10] .

- ( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الكلمة الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق بها. ) [11] .

ويقول ابن رشد : إنا ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات، واعتبارا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان. أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم. فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم. [12] .

وسيرا في ضوء هـذا المنهج الإسلامي وجدنا العصور الذهبية للمسلمين، تفتح صدورها لامتصاص المعرفة الإنسانية المادية التي خلفتها في الأمم والشعوب، وحضارات سالفة. [13] [ ص: 121 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية