الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أسباب الغزو الفكري

أولا: العداء الصليبي للإسلام والمسلمين

والباحثون يدركون أن أوروبا اكتشفت الفكر الإسلامي في مرحلتين من مراحل تاريخها، فكانت مرحلة القرون الوسطى، قبل وبعد ( توماس إلاكويني ) [1] تريد اكتشاف هـذا الفكر، وترجمته. من أجل إثراء ثقافتها بالطريقة التي أتاحت لها فعلا تلك الخطوات، التي هـدتها إلى حركة النهضة، منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وفي المرحلة العصرية والاستعمارية، فإنها تكتشف الفكر الإسلامي مرة أخرى، لا من أجل تعديل ثقافي، بل من أجل تعديل سياسي، لوضع خططها السياسية، مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية أخرى، ولتسيير هـذه الأوضاع طبق ما تقتضيه السياسات في البلاد الإسلامية [2] .

ويذكر المؤرخون أن الجيوش الأوروبية الصليبية لما هـاجمت بلاد [ ص: 44 ] الإسلام كانت مدفوعة إلى ذلك بدافعين:

الدافع الأول: دافع الدين، والعصبية العمياء، التي أثارها رجال الكنيسة، في شعوب أوروبا، مفترين على المسلمين أبشع الافتراءات، محرضين النصارى أشد تحريض على تخليص مهد المسيح من أيدي الكفار -أي المسلمين- فكانت جمهرة المقاتلين، من جيوش الصليبيين، من هـؤلاء الذين أخرجتهم العصبية الدينية، من ديارهم عن حسن نية، وقوة عقيدة، إلى حيث يلاقون الموت، والقتل، والتشريد، حملة بعد حملة، وجيشا بعد جيش.

والدافع الثاني: دافع سياسي استعماري، فلقد سمع ملوك أوروبا بما تتمتع به بلاد المسلمين من حضارة، وثروات، فجاءوا يقودون جيوشهم باسم المسيح ، وما في نفوسهم إلا الرغبة في الاستعمار والفتح، وشاء الله أن ترتد الحملات الصليبية كلها مدحورة مهزومة [3] .

ويكاد يكون معروفا، أن أوروبا شنت ثمان حملات صليبية على الشرق الإسلامي، وقد بدأت الحروب الصليبية منذ منتصف القرن الحادي عشر، واستمرت حتى نهاية القرن الثالث عشر، أي ما يقرب من مائتين وخمسة وعشرين عاما في ثماني حملات من الحملات المدججة بالعدد والمعدات، ويصف كاهن مدينة لوبوي ريموند واجيل سلوك الصليبيين حينما دخلوا على القدس ، فيقول: حدث ما هـو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقطعت رءوس بعضهم، فكان أقل ما أصابهم، وبقرت بطون بعضهم، [ ص: 45 ] فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رءوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هـذا لم يكن سوى بعض ما نالوه. [4] .

وروى الكاهن نفسه خبر ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر - رضي الله عنه - ويقول في هـذا: لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هـيكل سليمان، فكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هـنا وهناك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح، كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها. فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها. وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة، لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمنشفة [5] .

ويذكر التاريخ أن الحملة الصليبية عند دخولها بيت المقدس في 15 مايو 1099م قد ذبحت أكثر من سبعين ألف مسلم، حتى سبحت الخيل إلى صدورها في الدماء، وفي إنطاكية، قتلوا أكثر من مائة ألف مسلم.

فالأمر خطير، إنه حقد الشر على الحق، والرذيلة على الفضيلة، وعداوة الشرك للتوحيد، وخصومة الضلال للهدي [6] . [ ص: 46 ]

وقد صمدت الأمة الإسلامية في وجه هـذه الحروب الوحشية التي سلبت، ونهبت، وقتلت وفتكت.

وبعد مضي أكثر من قرنين من حروب دامية، اشتد وطيسها، بين كتائب الإيمان، وبين جحافل الشر، ارتدت الحروب الصليبية، وقد باءت هـذه الحملات بالإخفاق والهزيمة، فالقديس (لويس التاسع) قائد الحملة الصليبية الثامنة، وملك فرنسا، وقع أسيرا في مدينة (المنصورة) في مصر. ثم خلص من الأسر بفدية، ولما عاد إلى فرنسا، أيقن أن قوة الحديد والنار لا تجدي نفعا مع المسلمين الذين يملكون عقيدة راسخة، تدفعهم إلى الجهاد، وتحضهم على التضحية بالنفس، وبكل غال.

إذن: لابد من تغيير المنهج والسبيل، فكانت توصياته: أن يهتم أتباعه بتغيير فكر المسلمين، والتشكيك في عقيدتهم وشريعتهم، وذلك بعد دراستهم للإسلام لهذا الغرض، وهكذا تحولت المعركة من ميدان الحديد والنار إلى ميدان الفكر [7] ، لأن القضاء على الإسلام أو تحويل المسلمين عن دينهم، لا يمكن أن يأتي عن طريق القوة المادية، والغزو المسلح.

ولقد بدأت حركة (الغزو الفكري) من منطلق ضرب المسلمين عن طريق الكلمة، بعد هـزيمة الحروب الصليبية - كما وجههم (لويس التاسع) - والعمل على ترجمة القرآن، والسنة، وعلوم المسلمين، للبحث عن الثغرات التى يدخلون منها إلى إثارة الشبهات، [ ص: 47 ] وقد أعلنوا صراحة أن الإسلام هـو عدوهم الأول، وأن أكبر غاية لهم هـي ضرب وهدم قواعده. [8] لقد فشلت الحروب الصليبية من الوجهة الحربية. لكن بقي (الغزو الفكري) ينفث سمومه، ويثير الشكوك، وبقيت النزعة الصليبية تتوارى خلف ستار من الديبلوماسية، والرياء السياسي، تحرك ما تريد تحريكه، وتقف خلف الغزو الفكري، بكل ما لها من قوة، وعلم.

ولا شك أن العداء الصليبي للإسلام، هـو الدافع الأساس والأصيل (للغزو الفكري) الذي تسلط على مجتمعات الأمة الإسلامية، ونجد أن هـذا العداء أخذ (شكل السعار الوبائي) لدى الأمم الغربية (الصليبية) فأخذوا مستميتين يوزعون السموم، ذات اليمين، وذات الشمال، ويفترون الأكاذيب، ويطمسون الحقائق، ويدبرون المكائد، ويتصيدون السقطات، ثم يدخلون في روع أنفسهم، وبني جلدتهم أنهم أرقى عنصرا، وأفضل عقلا، وأفلح دينا، وأنهم أوصياء على البشرية، وسادة الإنسانية، وهداتها، ومرشدوها. [9] .

وقال ( وليم غيفورد لغراف ) الإنجليزي المسمى بالحرباء: الكلمة المشهورة التي يلخص فيها عداء الغربيين للإسلام: متى توارى القرآن، ومدينة مكة، عن بلاد العرب، يمكننا أن نرى العربي، يندرج في سبيل الحضارة، التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه. [10] . [ ص: 48 ]

وجلاد ستون رئيس وزراء بريطانيا يقول: ما دام القرآن موجودا فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هـي نفسها في أمان. [11] .

ويرى غاردنر : أن القوة التي تكمن في الإسلام هـي التي تخيف أوروبا. [12] .

ويوضح هـذا العداء، ويذكر بعض أسبابه المستشرق ( بيكر ) ، فيقول: إن هـناك عداء من النصرانية للإسلام، بسبب أن الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى، أقام سدا منيعا في وجه الاستعمار، وانتشار النصرانية، ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها. [13] .

ويقول في هـذا المعنى ( لورانس براون ) : إن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الغربي) [14] ثم بين ( لورانس براون ) أن خطر المسلمين هـو الخطر العالمي الوحيد في هـذا العصر، الذي يجب أن تجتمع له القوى، ويجيش له الجيوش، وتلتفت إليه الأنظار، فيقول حاكيا آراء المبشرين: إن القضية الإسلامية تختلف عن القضية اليهودية، إن المسلمين يختلفون عن اليهود في دينهم ، [ ص: 49 ] إنه دين دعوة، إن الإسلام ينتشر بين النصارى أنفسهم، وبين غير النصارى، ثم إن المسلمين كان لهم كفاح طويل في أوروبا - كما يراه المبشرون - وهو أن المسلمين لم يكونوا يوما ما أقلية موطوءة بالأقدام.. ثم يقول: (إننا من أجل ذلك نرى المبشرين، ينصرون اليهود على المسلمين في فلسطين ، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر ( باليابان وتزعمها على الصين ) وبالخطر البلشفي، إلا أن هـذا التخويف كله لم يتفق (لم نجده ولم يتحقق) كما تخيلناه، إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هـذا يكون كل مضطهد لهم [15] عدونا الألد، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفر، فإن هـناك دولا ديمقراطية كبيرة، تتكفل بمقاومتها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام. [16] .

ولقد اشترك الاستعمار الغربي، والجهد التبشيري، والحقد الصليبي، في حرب المسلمين، وتشتيت تراثهم، ونهب ديارهم، بحيث أصبح يخيم عليهم كسحابة سوداء، من البغضاء الكراهية، يتمثل هـذا فيما حدث في عام 1918م عندما دخل اللورد (اللنبي) القدس، وأعلن: (الآن انتهت الحروب الصليبية) كان هـذا القائد يعبر عن الروح الأوروبية، الروح الصليبية، التي ظلت متوهجة في أعماقهم طوال تلك الحقب، وبنفس الحقد الذي صدر عن الجنرال الإنجليزي (اللنبي) ، كان مسلك الجنرال الفرنسي (غورو) قائد الجيش [ ص: 50 ] الفرنسي في دمشق حين ذهب إلى قبر صلاح الدين، بعد أن جاء راكبا سيارة مكشوفة، وترجل إلى القبر، وقال قولته المشهورة: (نحن هـنا يا صلاح الدين ) وفي اليوم التالي عمل الشيء نفسه في حمص ، حيث ذهب إلى قبر (خالد بن الوليد) - رضي الله عنه - وقال: (نحن هـنا يا خالد ) [17] .

هذا الحقد، والضغن، والمقت، كان سببا قويا، في الإغارة على المسلمين، بشتى الأساليب، والطرق والأشكال، والألوان، وما زالت تلك الموجة، تعلو، وتشتد، وتمتد، ثقافيا وفكريا، لتخريب قواعد الإسلام، والأخلاق الإسلامية، وإشاعة الأفكار والتيارات الهدامة [18]

، وشغل الأمة الإسلامية، بكل ما هـو هـامشي في حياتها، حتى لا تدرك اليقظة الواعية، ولا تنتبه إلى ما يحاك حولها.

لقد وجد الغربيون أن خير طريق لغزو العالم الإسلامي وإخضاعه، هـو سلوك الغزو الفكري، فوضعوا الخطط، وحاكوا المؤامرات للغارة على الأفكار والمفاهيم الإسلامية، وعلى كل ما له صلة بالإسلام، حضارة وثقافة، وصارت قاعدتهم التي ارتكزوا عليها: (إذا أرهبك عدوك فأفسد فكره ينتحر به، ومن ثم تستعبده) وانطلقت الصيحة إلى ضرورة نقل المعركة من ساحة الحرب إلى ميدان [ ص: 51 ] الفكر والمعرفة [19]

. فأغاروا على حضارة الإسلام وثقافته سعيا وراء هـدم عقائده وأفكاره، ونشر الأفكار الغربية بديلا عنها.

ولا شك أن الغزو الفكري أعمق أثرا، وأشد فتكا في حياة الأمة من الغزو المسلح، لأنه يتسلل إلى عقولها وقلوب أبنائها، ذلك أن الأمم تقاس بمقوماتها العقدية، والفكرية، وقيمها الخلقية.

فالغزو الفكري الأخلاقي أخطر من الغزو المادي المسلح، لأنه يمضي بين الناس، في صمت ونعومة وخفاء في الأهداف، مما يجعل الناس تدريجيا يتقبلون كل جديد، ولو خالف قيمهم وعقائدهم وأفكارهم دون معارضة، ويتقبلون الذوبان في بوتقة أعدائهم، وهم ينظرون ولا يشعرون.

وإذا كان العداء الصليبي للإسلام والمسلمين سببا رئيسا دفع بالغرب إلى (الغزو الفكري) للمجتمعات الإسلامية فإن هـناك أسبابا أخرى - غير العداء الصليبي - ساعدت على انتشار (الغزو الفكري) وعملت على هـزيمة المسلمين أمام هـذا الغزو. ونجد ذلك واضحا في السبب الثاني.

التالي السابق


الخدمات العلمية