الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الغزو الفكري

لقد وضح لنا: أن هـناك (غزوا فكريا) مقصود، يعمل لإذابة الشعوب، وانسلاخها عن عقائدها، ومذاهبها، وحضاراتها، لتصبح مسخا شائها تابعا لغيره، يؤمر فيطيع.. ولقد عمل هـذا الغزو على تضليل المجتمعات الإنسانية، وخداعها، والتمويه عليها، وقلب الحقائق، وتشويه الحقيقة، عن طريق تصنيع الكلمة، وزخرفة القول، [ ص: 41 ] والدخول إلى المخاطب، من نقطة الضعف، والاستغفال لإغرائه، والإيقاع به، والإيحاء إليه بسلامة الفكرة، وصحة المفهوم المزيف الذي تحمله كلمات الغزو.

ولكم تهاوت أمم وشعوب وأجيال، وتساقطت في هـاوية الضلال والانحراف، والفساد الخلقي، والعقدي، والاجتماعي، بسبب تصورات (الغزو) المزخرفة الخداعة، التي يرقص السذج، والجهال على نغم إيقاعها، ويفتنون بسماعها وأناقة ظاهرها.

ولكم عانى الإنسان والشعوب من أولئك الذين يصنعون (الغزو الفكري) ، ويصدرونه في موجات، تقتحم الديار والبيوت، لقد قيدت الإنسانية إلى هـاوية الضلال، والانحراف. ولقد كان (للغزو الفكري) في كل جيل، وفي كل عصر دوره التخريبي، في حياة الناس، إلا أن البشرية لم تشهد في مرحلة من مراحل حياته وضعا كان فيه (للغزو الفكري) خبراء، ومتفلسفون، وأجهزة، ومؤسسات كعصرنا الحاضر هـذا، الذي اتخذ فيه (الغزو الفكري) صبغة الفلسفة، والنظرية، والمبدأ، الذي يعتنقه الأتباع، ويدافعون عنه، وينقادون له..

و قضية الغزو الفكري، أصبحت اليوم، من أشد القضايا خطرا، وتبدو ظواهر هـذا الغزو المدمر، في قلوب وعقول كثير من المثقفين، في هـذا العصر واضحة بينة، والسلاح الذي يستعمله (الغزو الفكري) مدمر قتال، يؤثر في الأمم والمجتمعات، أكثر مما يؤثر المدفع والصاروخ والطائرة، وقد ينزل إلى الميدان، ويعظم خطره، [ ص: 42 ] حين تخفق وسائل الحديد والنار في تحقيق الهدف، والوصول إلى الغاية، والخطر الذي يحتجنه هـذا الغزو أكثر بكثير من قتل الأفراد، بل من قتل جيل بأسره. إذ يتعدى ذلك إلى قتل أجيال متعاقبة، والسلاح الذي يستعمله هـذا الغزو هـو سلاح الحيلة والشبهات وتحريف الكلم، والخديعة، في العرض [1] .

ومما لا ينكر: أنه لم يواجه دين من الأديان، ولا عقيدة من العقائد، مثل ما واجه الإسلام من تحديات، فقد واجه الإسلام منذ فجر تاريخه تحديات عنيدة من مخالفيه، فقد واجه المشركين في مكة، واليهود في المدينة، ثم لما فتحت الأمصار، وانتشر الإسلام فيها واجهت الثقافة الإسلامية أفكارا شعوبية إلحادية، وفلسفات وثنية، كالفلسفات الفارسية، واليونانية والهندية، وغيرها. ولكن الإسلام ثبت أمام هـذه التحديات، وانتصر عليها. فقد كان المجتمع الإسلامي آنذاك يعي الإسلام وعيا كاملا، ويدرك أخطار الأفكار والاتجاهات التي كان يطرحها الفلاسفة والزنادقة، وما تحمله من شبهات، وهي في جملتها تعمل على نقل الفكر، من مجال أصالة الفطرة، ومنطق العقل الصحيح، وطريق التوحيد، وطابع الإيمان، إلى مجال الإلحاد والإباحية. غير أن المجتمع تصدى لهم، وأخذ يكشف زيفهم، ويبين ما انطوت عليه قلوبهم من كيد، ولم تستطع أن تنال من الإسلام عبر العصور.

على أن من أخطر هـذه التحديات هـي تلك التي تواجهها المجتمعات [ ص: 43 ] الإسلامية اليوم، وهي تحديات تتمثل بالمواجهة السافرة حينا، والمستترة أحيانا، هـذا التحدي الذي يتمثل حاليا بالغزو الفكري الغربي [2] .

التالي السابق


الخدمات العلمية