الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
اللـقـاء الحضـاري

اللقاء الحضاري الإسلامي مع حضارات الأمم المختلفة تم بناء على: أن العالم هـو أقرب ما يكون إلى (منتدى) عالمي لحضارات متميزة، تشترك أممها في عضوية هـذا المنتدى، ومن ثم فإن بينها ما هـو (مشترك حضاري عام) . وأيضا فإن هـذه الأمم تتمايز حضاريا [1] الأمر الذي يستدعي الحفاظ على الهويات الحضارية المتميزة، لا لمجرد الحفاظ عليها، رغم أهميته، إنما لأسباب وطنية، وعقدية، تلعب دورها، في إنهاض أمم كثيرة من كبوتها وتراجعها، لما لهذه الخصوصيات من قدرات على شحن شعوب هـذه الأمم بالكبرياء المشروع، والطاقات المحركة، في معركة الإبداع، ولما للتعددية الحضارية من دور في إثراء مصادر العطاء العالمي [2] .

والذين يعايشون حياة الشعوب والأمم ذات الحضارة الغنية، والتاريخ القديم، والتراث العريق، أو يغوصون في تراث هـذه الأمم وفلسفتها، ومذاهبها، وتقاليدها، وأعرافها يدركون أن العالم الإنساني به أمم متعددة، تتميز كل منها بشخصيتها القومية، والحضارية المتميزة.

إن العناصر الخارجية ضرورة حتمية، لا تستغني عنها أي حضارة، مهما سمت وارتفعت. إنها تمتزج، لتكون وإياها صيغة جوهرية تختلف من تراث إلى آخر. وهذه العناصر الخارجية، تأتي بطريق الاقتباس الإرادي المباشر المقصود. والاقتباس والنقل، عملة متداولة [ ص: 122 ] بين الشعوب قاطبة، فكل حضارة أبدعت ونقلت وأخذت وأعطت، ولم توجد قط حضارة أبدعت ولم تنقل، فالنقل ليس وباء وإنما هـو غذاء، والاستعارة ليست عارا، وإنما هـي فخار.

فالتأثيرات الحضارية والاستعارات الثقافية والأفكار والآراء والنظريات المتبادلة بين الأمم والشعوب إنما هـي ظاهرة صحية طبيعية سليمة، لا خطر فيها ولا خوف منها [3] .

والعرب هـم وارثو الحضارات القديمة، إذ لم يكونوا قبل الإسلام معزولين عن جيرانهم أصحاب الثقافات العريقة عزلة كاملة. فقد انفردت الصحراء العربية بين صحاري العالم أجمع، بأنها أحيطت منذ القدم بأرقى حضارات العالم.

ففي الشمال ازدهرت حضارة ما بين النهرين، وحضارات الإغريق ، والكنعانيين ، والآراميين ، وجزر بحر إيجه .

وفي الغرب ازدهرت حضارة المصريين القدماء، وفي الشرق كانت الحضارة الفارسية، ومن ورائها الحضارات الآسيوية الأخرى. وفي الجنوب كانت حضارة اليمن.

وكانت القوافل العربية دائبة الحركة بين مراكز هـذه الحضارات، عند أطراف الصحراء، تنقل البضائع والسلع، وكان لا بد أن تتحرك المعارف والثقافات مع السلع والبضائع، وأن تختلط هـذه الثقافات، وتتزاوج في حركة بطيئة ولكنها ثابتة مستمرة. وأن يؤدي كل ذلك إلى تصفية الأفكار والمعارف وتقدمها، تبعا لهذا [ ص: 123 ] الاختلاط والتزاوج [4] .

في هـذا الجو جاء الإسلام. إنه لم ينتشر في فراغ. فالأمم التي صادفها أو اتصل بها، في حركة المد الكبيرة، أو تلك التي اعتنقته ودانت به، أمم عرفت حضارات شتى، وثقافات متنوعة، ومرت بتجارب روحية، وخبرات مادية متعددة.

وكان اختلاط العرب بهذه الأمم اختلاط قتال وحروب ومعارك أولا. ثم اختلاط حضارة وثقافة وأفكار بعد ذلك. ومن هـنا كان التأثير والتأثر. ومن هـنا كان التفاعل والإخصاب، وكان الأخذ والعطاء، وتبادل الأفكار والآراء.

وبذلك عرف العرب حضارة الهند، وحكمة فارس، وفلسفة اليونان، واختلط المسلمون بأقوام تنوعت عقائدهم، وتشعبت آراؤهم. والتقوا بمئات المفكرين والباحثين والمثقفين. واتصلوا بأصناف من الأفراد والجماعات لا تدخل تحت حصر. وشاع التزاوج والأصهار وتفاعلت العادات والتقاليد والآراء والأفكار والمذاهب والمواقف والعلاقات. وجاءت وحدة الدين لتعطي هـذا التفاعل صيغة فريدة. ونتج عن ذلك كله تمازج فكري واجتماعي وروحي جديد، أعطى الحضارة الإسلامية معناها ومبناها [5]

وكلما ذهبنا نبحث في حضارات الأمم، وجدنا أن اللقاء والتفاعل الحضاري، الذي عرفه التاريخ بين الحضارات العريقة المالكة لما هـو (مشترك) ولما هـو (خاص) قد تم وفق: [ ص: 124 ] أن هـناك (ما هـو مشترك إنساني عام) وهناك ما هـو خاص.

فالتقاء الحضارات -وهو معلم من معالم التاريخ الحضاري للإنسانية، وتفاعل هـذه الحضارات عندما تلتقي- هـو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه، لكنه تم دائما وأبدا وفق هـذا القانون الحاكم: التمييز بين ما هـو مشترك إنساني عام، تفتح له الأبواب والنوافذ، بل ويطلبه العقلاء، ويجدون السعي في تحصيله، وبين ما هـو خصوصية حضارية. يدققون -في حذر- قبل استلهامه وتمثله. ويعرضونه على معايير حضارتهم، لفرز ما يقبل منه ويتمثل، من ذلك الذي يرفضونه، لما فيه من تناقض مع هـويتهم الحضارية وقيمهم الإعتقادية [6] .

ولقد اختلط الأوروبيون بمن هـم أرقى منهم، فاستفادوا من الحضارة الإسلامية، فساعد هـذا على قيام النهضة الأوروبية الحديثة.

إن أوروبا استطاعت أن تتفاعل مع الحضارة الإسلامية، وتأخذ عنها، وتستفيد منها، فيما هـو (مشترك إنساني عام) . أما ما كان من خصوصية للحضارة الإسلامية، فقد رفضها الغرب.

لقد أقبل الغرب بنهم على امتلاك رصيد الحضارة الإسلامية من العلوم الطبيعية، علوم المادة وظواهرها، وخصائصها، وعلوم التمدن المدني والعلمي، مثل علوم الطب، والصيدلة، وقواعد النظافة العامة والخاصة، وعلوم الزراعة، والنباتات، والحيوان، [ ص: 125 ] وفنون وعلوم الحرف والصناعات، والتجارة، والمواصلات، ووسائل الاتصال، وفنون القتال، واستخدامات الحرب، وطبقات الأرض وأنواعها، والمعادن، والبصريات، والمناظر، والكيمياء، والفلك، والرياضيات، من جبر وهندسة وحساب، والجغرافيا، والرحلات، وعلوم البحار، والملاحة فيها. وغير ذلك من علوم وفنون [7] .

لقد أخذ الغرب، من الحضارة الإسلامية، ما هـو (مشترك إنساني عام) وترك من الحضارة الإسلامية، ما هـو خصوصية حضارية إسلامية.

(لقد أجمعت تيارات فكر النهضة الغربية، على رفض أبرز خصائص الحضارة الإسلامية. وهي خصيصة (التوحيد) وخصيصة (الوسطية) وخصائص أخرى كثيرة تتصل بالإسلام، وعقائده.

ورفض الغرب لهذه الخصائص الإسلامية، هـو الذي ميز الحضارة الغربية بطابعها المميز: الطابع المادي.

- فالحضارة الإسلامية قامت بعملية (توفيق) ما بين الحكمة والشريعة، ولكن الحضارة الغربية تميزت بإخراج الدين من إطار العقل، كما أخرجت الدنيا والدولة وعلوم التمدن من إطار الدين.

- والحضارة الإسلامية ربطت بين الدين والدولة، والحاكم والمحكوم، والحضارة الغربية فصلت بين الدين والدولة في خصوصية حضارية فكانت العلمانية . [ ص: 126 ]

لقد أجمعت تيارات فكر النهضة الغربية، على رفض أبرز خصائص الحضارة الإسلامية. وهي خصيصة (التوحيد) وخصيصة (الوسطية) وخصائص أخرى كثيرة تتصل بالإسلام، وعقائده.

ورفض الغرب لهذه الخصائص الإسلامية، هـو الذي ميز الحضارة الغربية بطابعها المميز: الطابع المادي.

- فالحضارة الإسلامية قامت بعملية (توفيق) ما بين الحكمة والشريعة، ولكن الحضارة الغربية تميزت بإخراج الدين من إطار العقل، كما أخرجت الدنيا والدولة وعلوم التمدن من إطار الدين.

- والحضارة الإسلامية ربطت بين الدين والدولة، والحاكم والمحكوم، والحضارة الغربية فصلت بين الدين والدولة في خصوصية حضارية فكانت العلمانية.

- الحضارة الإسلامية وفقت بين الفرد والمجموع في ربط متناسق، أما الحضارة الغربية فقد انحازت للفرد في (ليبرالية) واضحة.

- والحضارة الإسلامية ربطت الأعمال بالحكمة منها. والوسائل بأخلاقيات الغايات المبتغاة من ورائها. أما الحضارة الغربية، فكان اهتمامها قائما على اللذة والشهوة واللحظة. وكانت سياسة الحضارة الغربية تعني ( بالميكيافيلية ) (فن الممكن من الواقع بصرف النظر عن الأخلاق) .

- الحضارة الإسلامية وازنت بين سيادة الله وحاكميته، وبين سلطان الأمة وسلطاتها، في حين كانت الحضارة الغربية، تقوم على أن [ ص: 127 ] الإنسان سيد الكون، يفعل ما يشاء [8] .

إذن وبكل تأكيد: هـناك ما هـو (مشترك إنساني عام) تأخذه الحضارات من بعضها وتساهم فيه كل حضارة بالعطاء المتجدد، الذي يزيده قوة وفائدة.

وهناك ما هـو خصوصية حضارية، لا تقبل الحضارات الآخذة أن يكون ضمن المأخوذ، ونجد ذلك واضحا في أعمال أوروبا الناهضة، فحينما ترجمت أعمال الفيلسوف المسلم ابن رشد ، أخذت من هـذه الأعمال ما يتصل بالفلسفة اليونانية، ورفضت أخذ ما هـو خصوصية حضارية إسلامية.

فالرشدية اللاتينية التي أخذتها أوروبا هـي شروح ابن رشد على أرسطو حكيم اليونان، أما إبداع ابن رشد الفيلسوف المسلم، والمتكلم والقاضي، والفقيه، والذي تمثل في مؤلفاته: (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) و (تهافت التهافت) و (مناهج الأدلة) ، فقد رفضته أوروبا رفضا تاما.

يقول الفريد جيوم : إن علينا أن نضع حدا فاصلا بين ابن رشد كفيلسوف، وابن رشد كشارح لأرسطو [9] ..

وإذا كانت الحضارة الغربية قد رفضت منذ البداية الرشدية الإسلامية ؛ كما تمثلت في مؤلفات ابن رشد الإبداعية، فإن الحضارة الغربية، قد فصلت أيضا إضافات ابن رشد التي تخللت شروحه [ ص: 128 ] على أعمال أرسطو . ونهض بهذه المهمة القديس توما الاكويني (1225-1274م) ولذا نرى الجامعات الغربية تتبنى أرسطوا في ذات الوقت الذي تحرم فيه فكر ابن رشد ، وتحكم بالكفر على مائتين وتسع عشرة مسألة، تمثل إضافات ابن رشد على الشروح التي قدمها لأعمال حكيم اليونان [10] ..

ومما لا يحتاج إلى بيان، أنه كلما استلهمت الحضارات (ما هـو مشترك إنساني عام) كلما تقدمت الحضارات واستفادت وازدهرت، وانتشر الأمن.

التالي السابق


الخدمات العلمية