الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ضـرورة الإسـلام

إن الإنسان آية الله في خلقه، طبعه ربه على هـذا النحو العجيب، [ ص: 80 ] وفطره على هـذه الصبغة الفذة، مقترنة بعديد من الغرائز والميول، وحينما تشده الأولى إلى زكاة النفس، واستواء الفطرة، وقصد السبيل، فإن الثانية تشده إلى النقيض تماما بتمام، وبين هـذا وذاك يتطلع الإنسان ويرنو إلى ما يحفظ عليه نقاء معدنة وصفاء جوهره، وزكاة نفسه، وطهارة قلبه، واعتدال خلقه، وقصد سلوكه، ويجعله على طول الخط سوي المنهج، قويم السبيل، زكي الباعث، نبيل المقصد، متعلقا بمعالي الأمور، نائيا عن سفافها، يتطلع إلى ذلك ويهفو إليه، فلا يجده إلا في رحاب الإيمان بالله وأحضان الطاعة له، وظلال القرب منه.

والإنسان بفطرته لا يملك أن يستقر في هـذا الكون الهائل، فلا بد له من رباط معين بهذا الكون، يضمن له الاستقرار فيه، ومعرفة مكانه في هـذا الكون، الذي يستقر فيه، [1] فلا بد له إذن من عقيدة، تفسر له ما حوله، وتفسر له مكانه فيما حوله، فهي ضرورة فطرية، شعورية، تقوم بالتأصيل لجوهر الفطرة، ومتابعة بعثها، لضمان استمرار حركتها وعملها وانطلاقها.

ومن هـنا: كانت حاجة الإنسان إلى العقيدة حاجة فطرية، مركوزة في فطرته، ومغروسه في شعوره، ومخلوطة بدمه وعصبه، ولكنه قد يضل عن إدراك هـذه الحقيقة، فيشقى ويحار، ويفقد الاستقرار [2] .

هذه الحاجة الفطرية في الإنسان إلى العقيدة، هـي التي يتحقق بها إدراك الإنسان لحقيقة مقامة في هـذه الحياة، ورسالته وعمله ودوره [3] . [ ص: 81 ]

وقد أودع الله -سبحانه وتعالى- في الإنسان، ما يستطيع به إدراك الحقائق الكبرى في الوجود [4]

وندبه الله -سبحانه وتعالى- للقيام بمهمة التعرف على هـذه الحقائق، التي يراها الحس والعقل والوجدان، في الآفاق وفي النفس، وفي كل شيء [5] ففي الأرض آيات للمؤمنين، وفي السماء مثلها وأعظم. فالفطرة الإنسانية السليمة، هـي التي تتوجه إلى الكون، بروح منفتحة، تكشف ما فيه من قصد، وتصميم وإبداع، وتنتهي إلى إدراك مكانها من هـذا الوجود وتحديد كيفية سلوكها فيه، ومن خلال هـذا التصور تتحدد علاقة الإنسان بربه -عز وجل- [6] .

فالإنسان لا غني له عن الدين، لأنه يحسه في نفسه، شعورا ووجدانا ويشير إلى هـذا الشعور ما رواه أبو هـريرة رضي الله عنه أن ( رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من مولود إلا يولد على الفطرة ) [7] .

وقول الله تعالى: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هـذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) (الأعراف172-173) . [ ص: 82 ] ففي هـذه الآية بين الله تعالى أنه أخرج من صلب آدم وبنيه ذريتهم نسلا بعد نسل، على هـيئة ذر، وذلك قبل خلقهم في الدنيا وأشهدهم على أنفسهم قائلا لهم: ألست بربكم، فأجابوا: (بلى شهدنا) بذلك، فالله سبحانه وتعالى - أشهدهم على أنفسهم قائلا لهم: ألست بربكم، فأجابوا: (بلى شهدنا) بذلك، فالله سبحانه وتعالى أشهدهم على ربوبيته، حتى لا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هـذا التوحيد غافلين، أو غير عالمين [8]

فالإيمان بالله فطرة فطر الناس عليها وإنما يضلون عنها بعض الوقت، أو كل الوقت، ثم يعودون إليها، ولو عند فراق الحياة، أو عند نزول الكوارث والأحداث، فقد كان فرعون يدعي الألوهية، ويقول لقومه: ( أنا ربكم الأعلى ) (النازعات 24) . وسام بني إسرائيل سوء العذاب وكفر بموسى وإله موسى، ولكنه عندما أدركه الغرق قال: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) (يونس 90) .

والمشركون بالله والكافرون به في كل الأجيال كانوا يعبدون الأصنام، ويستقسمون بالأزلام. فإذا مسهم الضر في البر، أو في البحر، لجئوا إلى الله يدعونه ويسألونه النجاة ( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) (يونس 12) .

ومن هـذا يتبين أنه يوجد في طبيعة تكوين الإنسان استعداد فطري [ ص: 83 ] لمعرفة الله وتوحيده، فالاعتراف بربوبيته متأصل في فطرة الإنسان، وموجود في أعماق روحه، فقد أنشأهم الله على الاعتراف بالربوبية له وحده. فالاعتراف بربوبية الله وحده، فطرة في الكيان البشري، فطرة أو دعها الله الخالق في هـذه الكينونة، وشهدت بها على نفسها بحكم وجودهما ذاته. وحكم ما تستشعره في أعماقها من هـذه الحقيقة، فالتوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر، وخالق البشر، منذ كينونتهم الأولى. [9] .

والوجود كله عابد بطبيعته، منصاع لوظيفته، لا يسعه إلا أن يطيع ربه في ولاء لا يشوبه استنكاف، ولا يطاله تأب، بل إنه جميعا من أعلاه إلى أسفله يهتف في البداية بلغة المقهور أمام عظمة القاهر. وهتاف العابد، تجاه قدسية المعبود، بما سجله الحق في قوله تعالى: ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) (فصلت 11) .

والإنسان وإن كان من طبعه أن ينسى أحيانا، وأن يغفل، وأن يجحد أحيانا، وأن يكفر، لأن امتزاج الروح بالجسد، وانشغال القلب بمطالب جسده، ومطالبه المختلفه، التي تستلزمها حياته في الدنيا، وعمارة الأرض، قد جعلت من معرفة الإنسان بربوبية الله، واستعداده الفطري للتوحيد، عرضة لأن تطمره الغفلة، ويغمره النسيان، ويطويه الاشعور في أعماقه، ويصبح الإنسان في حاجة إلى ما يوقظ هـذا الاستعداد الفطري، ويبعد عنه النسيان، ويبعثه من [ ص: 84 ] أعماق اللاشعور، فيظهر جليا واضحا في الإدراك، والشعور، ويتم ذلك عن طريق تفاعل الإنسان مع الكون [10]

وتلك فطرة فطر الله الناس عليها، وصبغة صبغهم بها، لا فكاك لهم منها، ولا شذوذ لهم عنها.

فعاطفة التدين، أو الاعتقاد بدين من الأديان أمر غريزي، ويشترك بين الناس عامة في كل عصر ومكان، فإنه لم تخل جماعة من الناس في أي زمان، من عقيدة دينية على نحو ما، وقد أثبت التاريخ أنه قد وجد في الماضي السحيق جماعات إنسانية من غير فلسفات وعلوم وفنون. ولكن لم توجد قط جماعة إنسانية من غير دين. [11]

إذ لا بد في حياة الناس من نظم تلم شتاتها، وترفه حياتها، وتضمن لها أسباب النهوض والتقدم، ويعيش الناس في ظل هـذه النظم على قواعد الحق والعدل، في أمن وسلام، وقد كرم الله الإنسان بالعقل لكنه أودع فيه نفسا أمارة بالسوء، وهو يعيش في صراع بين عقله الهادي إلى الصلاح، ونفسه الأمارة بالسوء، فكان من تمام نعمته عليه، أن وضع له النظم التي توصله إلى التغلب على النفس، وسد منافذ الشيطان إليها، فحمله أمانة التكليف، وأخذ عليه العهد، بأن يعبده، ولا يشرك به شيئا، وأمده بهداية الرسل، عليهم الصلاة والسلام. [12]

. [ ص: 85 ] إذن لكي تتحقق الحكمة الإلهية في خلق الإنسان، ويتبين المصداق الحق لقوله تعالى إرشادا للملأ الأعلى: ( قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة30) ، كان لا بد لقوة الخير في الإنسان من مدد يعينها على سد منافذ الشر والطغيان. [13] .

ومن هـذا يتبين أن الدين للإنسان من الشئون الضرورية التي لا حياة له إلا بها [14]

والله سبحانه وتعالى قد خلق الناس، ولم يتركهم وشأنهم، بل اختار لهم نظما وأحكاما، تسعدهم في الدنيا والآخرة، وذلك لأن الإنسان عاجز عن إدراك المغيبات، ويتأثر تفكيره بمؤثرات من الزمان، والمكان، والمجتمع، وهو عاجز عن حمل غيره على طاعته، لعدم قدرته على القهر الذي يحمل الناس على كامل الطاعة، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى في كل أمة رسولا منها، وأيده بالمعجزات، وأمده بتعاليم السماء، لينشر الخير، ويعالج الشر ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) (النساء 165) ، وقد شرع الله تعالى لخلقه ما يناسب حالهم، ويتلاءم مع ظروف حياتهم، وقوة إدراك عقولهم، وقوة احتمالهم [15]

وإذا كان الدين والتدين أمرا غريزيا وفطريا في الإنسان، في كل زمان [ ص: 86 ] -كما عرضنا- فإن الدين الإسلامي هـو الدين الحق، الذي رضيه الله تعالى للناس جميعا. والآية الكريمة التي عدت الدين عند الله الإسلام: ( إن الدين عند الله الإسلام ) (آل عمران: 19)

تعني: مجموعة المبادئ الإسلامية وتعاليم الإسلام.. فالإسلام مر بمراحل كثيرة عبر أنبياء الله ورسله، إلى أن انتهى إلى المرحلة المتكاملة في رسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - التي جاءت إلى الإنسانية كلها -إذن- رسالة الإسلام هـي الإسلام الشامل للإنسانية، في وحدة إيمانها بالله،

قال تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة:3)

ولهذا كان الإسلام يشتمل على امتداد زماني في المعتقد الديني، ويعرض لقضية البشرية من نشأتها إلى غايتها، ويشتمل على شمول موضوعي يغطي مجالات الحياة جميعا، ويشتمل على شمول يضم الأديان كلها، ويدعوها إلى تصحيح معتقداتها [16] .

فالديانات وإن تعددت في الفروع والتكاليف والأعمال، فقد اتحدت في المصدر الذي صدرت عنه، وهو الله تعالى -واتحدت أيضا- في الأصل الذي دعت إليه، وهو التوحيد.

فالقدر المشترك بين الديانات جميعا هـو: تصحيح العقيدة أولا، ثم معالجة الأمراض الخلقية والاجتماعية الموجودة في تلك البيئات،

قال تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا [ ص: 87 ] الطاغوت. ) (النحل:36) ، وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) (الأنبياء:25)

وقال تعالى: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) (الشورى:13) .

ولقد جاء الإسلام في جانبه الإيماني، يؤكد هـذه الأسس، التي أكدها كل نبي، ولكنه في الجانب الذي يستتبع الشريعة، جانب الالتزام والعمل، كان الإسلام الفصل الأخير في تكامل التشريعات.

وهذا الطابع الشمولي الملتقي في أسس العقيدة، والمتكامل في التشريع، هـو الذي جعل من الإسلام الصيغة الوحيدة الباقية المستمرة أبد الدهر، ولعل هـذا هـو السر الذي جعل من الإسلام كلمة تختص بالدين الذي جاء به رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم [17]

وكلمة الإسلام، وفي الإطار اللفظي تعني التسليم والخضوع، وفي مفهوم الدين يراد منها: التسليم، والخضوع لله وحده، لا شريك له، وبهذا المعنى، أطلقت على كل من آمن بالله، وسلم لأمر الله، فأتباع كل نبي، وكل من يدين لله من أصحاب الأديان السماوية الحقة، هـم مسلمون بهذا المعنى [18] .

ووحدة الإيمان حقيقة تفرضها وحدة المصدر بصورة قاطعة، [ ص: 88 ] لا تقبل الجدل أو التشكيك، ولا يغير من واقعها وجود فواصل البعد الزمني بين الأنبياء، الذين أرسلهم الله إلى عباده [19] .

فالإيمان بالله سبحانه وتعالى ليس غريزة فطرية فقط، بل هـو ضرورة، فالدين عنصر ضروري، والإنسانية بحاجة إليه، للكمال النفسي، والروحي. فالإنسان جسم وروح، والجسم يتغذى بالطعام، والشراب، بينما تتغذى الروح بالإيمان، والعقيدة، وعلى ذلك فالإسلام منهج شامل لأمور الدنيا والآخرة، محقق لمصالح الفرد والجماعة، قوامه الشريعة والعقيدة والأخلاق، فليس دينا فقط، ولكنه دين ونظام حياة، لا تنفصل فيه العلاقة بين الله والإنسان، عن الصلة بين الإنسان والإنسان، وهو ينظمها جميعا.

فالعقيدة الإسلامية ضرورة للإنسان، وذلك لرفع مستواه والمحافظة عليه من الانحراف المادي والإلحادي.

ومن القواعد المقررة أن الإنسان مدني بطبعه، ومعنى ذلك أن الإنسان بفطرته، يميل إلى التعارف، والتعايش مع غيره، ولذلك جعل الحق سبحانه وتعالى التعارف بين الناس، من أهم أسباب خلقه لهم، إذ قال سبحانه وتعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13)

هـذا التعارف ليس مقصودا لذاته، وإنما جعل أولا: غذاء لطبيعة الإنسان، وثانيا: وسيلة للتعارف على كل ما فيه إسعاد البشرية، وتحقيق حياة أفضل [ ص: 89 ] لأفرادها في جانبها المادي والفكري، يبين ذلك المفكر محمد عبد الله دراز ، فيقول: إنه لا قيام للحياة في الجماعة، إلا بالتعاون بين أعضائها، وهذا التعاون إنما يتم بقانون ينظم علاقاته، ويحدد حقوقه وواجباته، وهذا القانون لا غني له عن سلطان نازع، ووازع، يكفل مهابته في النفوس، ويمنع انتهاك حرماته [20] .

وعلى ذلك نستطيع أن نقرر -دون أن نجانب الصواب- أنه ليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين، أو تدانيها في كفالة احترام شرع الله، وضمان تماسك المجتمع، واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة، والطمأنينة فيه. والسر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الحيوانات الحية، بأن أفعاله وأعماله الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع عليه سمعه ولا بصره، ولا يوضع في يده، ولا في عنقه، ولا يجري في دمه، ولا يسري في عضلاته وأعصابه، وإنما هـو معنى إنساني روحاني اسمه الفكر والعقيدة. وقد ضل قوم قلبوا هـذا الوضع، وحسبوا أن الفكر والضمير لا يؤثران في الحياة المادية والاقتصادية، بل يتأثران بها [21] .

وليست قوانين الجماعات، ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة تحترم فيها الحقوق، وتؤدى الواجبات على وجهها الكامل، فإن الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو السجن، أو العقوبة المالية، لا يلبث أن يهمله متى اطمأن إلى أنه سيفلت من طائلة القانون. [ ص: 90 ] والقانون إما إلهي، أو وضعي: لأن لكل حضارة شطرين: شطرا روحيا، وشطرا ماديا، فالشطر المادي يعتمد على الحس والعقل، وليس الأمر كذلك، فيما يتعلق بالشطر الروحاني أو النظري.

والشطر النظري: العقيدة والأخلاق، والتشريع، ونظام المجتمع [22] ولذلك جاءت العقيدة الإسلامية كاملة هـادية في الجانب النظري، فشملت التشريع، والأخلاق، ونظام المجتمع، ومن خصائص الوحي فيما يتعلق بالتشريع: أنه هـاد للعقل، وكما أن الدين هـاد للعقل، كان لا بد في استخدام العلم، من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية، وعمارة الأرض، لا إلى نشر الشر والفساد، ذلكم الرقيب هـو : العقيدة والإيمان.

ولا يخفى على أهل العلم: أن من الخطأ المبين، أن يظن بعض الناس أن في نشر العلم والثقافات وحدها ضمانا للسلام، والرخاء، وعوضا عن التربية والتهذيب الديني والخلقي. [23]

ذلك أن العلم سلاح ذو حدين، يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير [24]

فكما يستعمل للخير، يستعمل كذلك للشر، فلا بد للعلم من تربية عالية، وتوجيه سديد، وإيمان راسخ يوجه المجتمع، وذلك أن وظيفة العلم محصورة في الجانب الحسي المحض. فهو يقف عند حدود لا يتجاوزها، بينما وظيفة الدين في الحياة ذات مجال رحب. فالإسلام بما حواه من هـداية إلهية، وتشريعات سماوية، يكفل [ ص: 91 ] للمجتمع الإنساني، كل عوامل السعادة، والأمن والاستقرار، ولا يكون ذلك عن تشريع وضعي، يضعه فرد، أو جماعة معينة، ذلك لأن الإنسان مهما سما فكره، ونضج عقله، لا يمكن أن يحيط بكل ما يوفر للإنسانية أمنها واستقرارها.

لقد بين الله سبحانه وتعالى بالدين الإسلامي، وهو خاتم الرسالات الإلهية، ما هـو حق وخير، في مجتمع شئون الحياة، فهو لم يترك الإنسان سدى، بل بين له الرشد من الغي، ووضعه على الجادة الصحيحة، والطريق السوي فيما يختص بالعقيدة، والسلوك الفردي والاجتماعي، والعلاقات التي تربطه بغيره من الناس جميعا، فالدين الإسلامي فيه صلاح الناس جميعا، حتى الذين لم يرزقوا حظا وافرا من التفكير العقلي السليم، ولذلك كان الوحي الإلهي رحمة عامة لجميع الناس، ولهذا نرى الدين ضرورة اجتماعية كما هـو فطرة إنسانية [25] .

والله الذي خلق الإنسان، وركب فيه طبائعه ونوازعه، هـو الخبير بكل أدوائه، والعليم بوسائل شفائه، هـو وحده الذي يقدر أن يضع للجماعات الإنسانية من الشرائع والنظم ما يحقق لها أسباب السعادة، وجميع وسائل الأمن والاستقرار، وذلك بالدين الذي يدعوها إليه، فهو السلطان المهيمن على نفوس المؤمنين به، يحملهم على الأخذ بتعاليمه، ويدفعهم إلى القيام بما سنه لهم، من تشريع وتنظيم، ويدفعهم إلى التحلي بالفضائل ويحول بينهم وبين ارتكاب الرذائل، وليس هـناك وراء الدين شيء يهيمن على النفوس، [ ص: 92 ] غير نظام خالق النفوس [26] .

فالإسلام نظام رباني، يقوم على مبادئ سياسية، رضيها الله لعباده دستورا يقودهم في دنياهم إلى حياة كريمة، ويعدهم في أخراهم لميراث جنة عرضها السماوات والأرض.

فالإسلام هـو الرابطة التي جمعت البشرية على الإيمان بالله واليوم الآخر، ذلك أن القصد من الدين ليس إلا تزكية النفس، وتطهير القلب، وظهور روح الامتثال والطاعة، واستشعار عظمة الله. وإقرار الخير والصلاح في الأرض، على أساس قوي متين، من ربط العبد بخالقه [27]

فهو إذن مطلب إنساني رفيع، يغذي جانب الروح ولا ينسى حاجة العقل، وبعبارة أخرى: هـو مطمع العقل، وبعبارة أخرى: هـو مطمع العقل، وغاية الروح، وبجانب ما للدين من وظائف نفسية، تجعل منه غذاءا ضروريا لقوى النفس، وعصارة مقومة لحيويتها، توجد له وظائف اجتماعية، لا يكون موضوعها الفرد، وإنما يكون موضوعها المجتمع ككل [28]

. وهكذا يتبين للباحثين والدارسين: أن العقيدة الإسلامية تعبر عن حاجات النفس الإنسانية، في مختلف ملكاتها ومظاهرها. ومن هـنا تنبع حاجة البشر إلى الدين من طبيعة الإنسان نفسه، فقد خلقه الله تعالى ومنحه طبيعة الكائن المتكيف، وعلى ذلك فحاجة الإنسانية إلى التدين نبتة فطرية أصيلة ركبت فيه، وفطر عليها، ولذلك يكون الدين هـو [ ص: 93 ] الرقيب الذاتي داخل النفس، يدفع الإنسان إلى مراقبة الله، الذي يعلم السر، وما تخفي الصدور، فيكون دافع الدين والاعتقاد شاملا لجميع القوى المختلفة: الجسمية، والروحية، والنفسية، والخلقية والاجتماعية.

فالدين يزكي النفس، ويطهرها، ويحول دائما بين الإنسان، وبين نوازع السوء والضلال فيه. وذلك أنه يشعر دائما بمراقبة الله له في كل شيء، ومن هـنا تزكو نفسه بفعل الخير وعمله، والبعد عن الشر، وهذا مبلغ ما ينبغي أن تسعى الإنسانية إليه.

فالإنسانية بحاجة إلى الدين، لأنه جزء من فطرة الإنسان، وطبيعته ولا يمكن لإنسان عاقل أن يستغني عن جزء من فطرته وكيانه، فهو الوسيلة الوحيدة التي نأمن مخاطرها، ونضمن نتائجها، لتحقيق الحياة الإنسانية. فالدين يقيم نظاما يدعو إلى الفضيلة واعتناقها، كما يقيم دستورا حكيما يحفظ للإنسان إنسانيته، كما يحفظ له نفسه وماله.

وكما أن حاجة الإنسانية إلى الدين لحفظ النفس، والمال، والعرض كذلك فإن الإنسانية في حاجة إلى الدين، لتربية الإنسان، الذي كرمه الله تعالى فقال: ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) (التين:4)

وقال تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء 70) . [ ص: 94 ] وعلى ذلك فإن احتياج الإنسان إلى العقيدة نزعة فطرية ركبت فيه، وفطر عليها. ومن هـذا المنطلق يصف القرآن الكريم الدين أنه الحياة، وبأنه النور الذي يضيء للسالك الطريق،

قال تعالى: ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ) (الأنعام:122) .

فالعقيدة تقوم من المجتمع مقام الروح من الجسد، ولسعادة المجتمع لا بد من العقيدة الصحيحة، التي تنير الطريق، وتحدد أسلوب معاملة الفرد للجماعة والجماعة للفرد.

ولقد كان لهذه العقائد والأصول والمبادئ الإنسانية، التي قام الإسلام عليها، ولما قام عليه هـذا الدين من المساواة والعدالة، والإحسان، كان لذلك أثر بالغ في سرعة انتشاره، وحسن تقبل الناس له في أقطار العالم المختلفة، كما كان ذلك من العوامل الحاسمة، والأسباب القوية، فيما أدركه الإسلام من عز، ومجد، وسلطان، سعد به العالم الذي عاش تحت لوائه [29] .

فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هـذا الدين، ومن حاجة البشرية لهذا المنهج، نستمد يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، المتعطشة إليه البشرية جمعاء [30] .

فالعقيدة هـي أساس قيام المجتمع، وأساس صلاحه أو فساده، بل [ ص: 95 ] هي أساس بقائه واستمراره، فهذا الدين في حقيقته النقية المصفاة، له أثره المبارك في تهذيب النفس، وإسعاد الإنسان، وتوجيه الحياة وجهة الحق والخير، إن الدين ضرورة من ضرورات الإنسانية الراشدة، لا تغني عنه فكرة عقلية، ولا تنظيم وضعي)

قال تعالى: ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) (النساء:174-175) .

لقد كان الإنسان في الماضي يعبد ما لا ينفع، ولا يضر، وكان يخاف من كل شيء، فجاء الدين الحق، ودعا الناس إلى التحرر من خوف غير الله، وما عداه من المخلوقات، وبهذا تغيرت نظرة الإنسان إلى كل شيء.

إن الباحث: إذا تأمل أحوال الإنسانية في هـذا العصر، فسوف يجد أنها في أمس الحاجة إلى الإسلام.

فالحضارة الغربية وصلت إلى أعلى مستوى من الرقي العمراني، والتقدم العلمي الهائل، ولكن قصة البشرية - برغم التقدم الحضاري - فيها مساوئ كثيرة، زلت فيها أقدام البشر، وضاعت عقولهم. فقد أطلقت الحضارة الغربية حرية الإنسان، وحررت غرائزه من كل ضبط، وتحولت الحريات إلى انحراف في الغريزة، وإلى شذوذ في الطبيعة، وإلى عدوان على حريات الآخرين، ونتيجة لهذه الحرية لم يعد هـناك ضابط.

ومن تعاسة الحضارة المادية، أنها عكست كرائم النعم، والملكات [ ص: 96 ] التي أنعم الله بها على الإنسان، عكسا أسقط الإنسان في وديان الهلاك والدمار، وسقط بالإنسانية دون عالم الحيوان، فراجت خسائس العادات، و ذمائم الصفات من الاختلاط الفاضح، والشذوذ في السلوك، وظواهر الخنفسة والهيبيز، والارتخاص، والابتذال والخلاعة [31] .

لقد تقدمت العلوم بلا ريب، ولكن هـذه الحضارة التي علمت الناس كيف يسبحون في الماء بالغواصات الجبارة، وكيف يطيرون في الفضاء، وفي الهواء وفوق السحاب، عجزت حتى اليوم عن تعليم ناسها، وشعوبها كيف يسيرون على الأرض في طريق الخير، بغير عوج والتواء، أو تعثر.

إن الغرب اليوم في حيرة بالغة، وقلق واضطراب شاملين، وكل ذلك يأخذ عليهم عقولهم وقلوبهم، وأصبح الضمير هـناك لا يطمئن إلى عقيدة أو مبدأ أو نظام، فلم يعد يجد اليقين الذي يفيء إلى ظله، في جو من الهدوء والراحة والاستقرار [32] .

والبشرية اليوم في مفترق الطريق، فهناك اضطراب في الأفكار وحيرة في الاتجاهات، وزعزعة في النظم، وخواء من العقيدة، أصبح يجرفها دولة بعد دولة، وشعبا بعد شعب، إلى هـاوية المادية والضلال.

وليس الحال في الشرق والبلاد العربية، بأحسن من الغرب، فقد انحرف الكثير عن الدين في غير قليل من شئون الحياة [33] . [ ص: 97 ] لقد تأثرت بعض المجتمعات بالغزو الحضاري الغربي، وليس ذلك التأثير في الجانب العلمي، والصناعي، والعمراني، ولكن - للأسف - وفي أسوأ المساوئ، وأصبح بعضهم يقلد الغرب في كل ما هـب ودب، وما من ظاهرة من الظواهر العفنة، ولا موضة من موضات العصر، إلا ولها في بعض المجتمعات صدى واهتمام.

لقد أفلست الحضارة الغربية، برغم التقدم العلمي الهائل الذي وصلت إليه، وبدأ الإنسان الأوروبي يهرب من حضارته، لأنه لم يحس في ظلها بالسعادة، ولم يحس في مجتمعه بالأمن، والأمان والاطمئنان، فقد انتشرت عصابات القتل، والخطف، والتخريب، والإرهاب، وتفاقم خطر الجريمة وازداد عدد المجرمين، وامتلأت البلاد بجماعات العربدة والفجور، وأقيمت نوادي العراة، وأبيح في غير استحياء الشذوذ الجنسي إلى غير ذلك.

وأخيرا لهذا وغير هـذا: لجأ الغربيون إلى الهروب من معتقداتهم الدينية، ومذاهبهم الاقتصادية، بل من كل حضارتهم التي افتتنت بالعلم والعقل، فأصبحت شقية عمياء لا تبصر، طارت بحضارتها إلى الفضاء، وانحدرت بالشباب الغربي إلى مدارك السفالة والانحطاط، ليعيشوا في حياة الجنس والخمر، ونوادي العراة.

والشيوعية في الشرق وفي الغرب قد أعلنت فشلها وسقطت، بعد أن شبع الناس جوعا، وبكوا توجعا، وتألموا من شدة الكبت، وفقدوا كل كرامة وكل شيء.

وهكذا تعجز النظم البشرية، والقوانين الوضعية، عن تقديم أي [ ص: 98 ] عون للإنسان، أو الأخذ به إلى الطريق السليم، مما يؤكد ضرورة الإسلام للمجتمعات الإنسانية، لأن الإسلام قد انطوى على طاقة روحية جعلت منه - عند التطبيق - قوة فعالة ومؤثرة، بل إن فاعلية الإسلام، شملت حياة الأفراد، وحياة الجماعات من جميع الجوانب.

والإنسانية في عصرنا هـذا أشد ما تكون حاجة إلى الدين الإسلامي، فإن التقدم العلمي المادي الذي غزا الفضاء، لم يستطع أن يحقق للناس السعادة والطمأنينة التي ينشدون، بل زادهم تكالبا على المادة، وتنافسا جشعا جر إلى حروب.

فالذي نرجوه إذن لإصلاح هـذا العالم، الذي نعيش فيه، بعد أن أفلست كل نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعد أن ظهرت فيه فلسفات تدعو لإنكار وجود الله، والتحلل من المسئولية، وفاضل الأخلاق [34] .

إنه لا شيء غير هـذا الدين الإسلامي، فلا خلاص للإنسانية إلا بالرجوع إلى الدين الحق، ولن نجد هـذا الدين -كما أنزله الله- واضحا ميسرا، خاليا من الغموض والتعقيد، سليما من التحريف والتبديل، إلا في الإسلام خاتم الرسالات الإلهية، فهو دين الروح والمادة، والقلب والعقل، والفرد والجماعة، والدنيا والآخرة [35] .

فإلى هـذا الإسلام في عقيدته وشريعته، في عباداته ومعاملاته، في نظمه وأخلاقه، ندعو البشرية كلها ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان [ ص: 99 ] من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) (النساء:174-175)

هذا الدين لا يزال العالم في حاجة شديدة إليه، ولا خلاص للإنسانية مما تعانيه إلا بالإيمان به، فهو الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر والداعي إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم. [ ص: 100 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية