الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          المسألة الثانية

          العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد ، وإن كان محصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين .

          ومنع من ذلك بعض معتزلة البغداديين وقالوا : لا يجوز ذلك إلا بعد أن يتبين له صحة اجتهاده بدليله .

          ونقل عن الجبائي أنه أباح ذلك في مسائل الاجتهاد دون غيرها كالعبادات الخمس .

          والمختار إنما هو المذهب الأول ، ويدل عليه النص والإجماع والمعقول .

          أما النص فقوله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) وهو عام لكل المخاطبين ، ويجب أن يكون عاما في السؤال عن كل ما لا يعلم ، بحيث يدخل فيه محل النزاع [1] وإلا كان متناولا لبعض ما لا يعلم بعينه أو لا بعينه . . . ، والأول غير مأخوذ من دلالة اللفظ ، والثاني يلزم منه تخصيص ما فهم من معنى الأمر بالسؤال ، وهو طلب الفائدة ببعض الصور دون البعض ، وهو خلاف الأصل ، وإذا كان عاما في الأشخاص وفي كل ما ليس بمعلوم فأدنى درجات قوله : ( فاسألوا ) الجواز ، وهو خلاف مذهب الخصوم .

          [ ص: 229 ] وأما الإجماع : فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية ، والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل ، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير ، فكان إجماعا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقا .

          وأما المعقول : فهو أن من ليس له أهلية الاجتهاد إذا حدثت به حادثة فرعية .

          إما أن لا يكون متعبدا بشيء ، وهو خلاف الإجماع من الفريقين وإن كان متعبدا بشيء فإما بالنظر في الدليل المثبت للحكم ، أو بالتقليد ، الأول ممتنع ؛ لأن ذلك مما يفضي في حقه وفي حق الخلق أجمع إلى النظر في أدلة الحوادث والاشتغال عن المعايش وتعطيل الصنائع والحرف وخراب الدنيا وتعطيل الحرث والنسل ورفع الاجتهاد والتقليد رأسا ، وهو من الحرج والإضرار المنفي بقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ، وبقوله - عليه السلام - : " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " [2] وهو عام في كل حرج وضرار ، ضرورة كونه نكرة في سياق النفي .

          غير أنا خالفناه في امتناع التقليد في أصول الدين ؛ لما بيناه من الفرق في مسألة امتناع التقليد في أصول الدين [3] ، ولأن الوقائع الحادثة الفقهية أكثر بأضعاف كثيرة من المسائل الأصولية التي قيل فيها بامتناع التقليد ، فكان الحرج في إيجاب الاجتهاد فيها أكثر ، فبقينا فيما عدا ذلك عاملين بقضية الدليل ، وهو عام في المسائل الاجتهادية وغيرها .

          فإن قيل : ما ذكرتموه معارض بالكتاب والسنة والمعقول .

          أما الكتاب فقوله تعالى : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )

          والقول بالتقليد قول بما ليس بمعلوم فكان منهيا عنه .

          [ ص: 230 ] وأيضا قوله تعالى حكاية عن قوم : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ذكر ذلك في معرض الذم للتقليد ، والمذموم لا يكون جائزا .

          وأما السنة : فقوله - عليه السلام - : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " [4] ، وقوله - عليه السلام - : " اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له " [5] ، والنصان عامان في الأشخاص وفي كل علم ، وهما يدلان على وجوب النظر .

          وأما المعقول : فمن وجهين :

          الأول : أن العامي لو كان مأمورا بالتقليد فلا يأمن أن يكون من قلده مخطئا ، وأنه كاذب فيما أخبره به ، فيكون العامي مأمورا باتباع الخطإ والكذب ، وذلك على الشارع ممتنع .

          الثاني : أن الفروع والأصول مشتركة في التكليف بها ، فلو جاز التقليد في الفروع لمن ظهر صدقه فيما أخبر به لجاز ذلك في الأصول .

          والجواب عن الآية الأولى : أنها مشتركة الدلالة ، فإن النظر أيضا والاجتهاد في المسائل الاجتهادية قول بما ليس بمعلوم .

          ولا بد من سلوك أحد الأمرين ، وليس في الآية دليل على تعيين امتناع أحدهما كيف ويجب حملها على ما لا يعلم فيما يشترط فيه العلم تقليلا لتخصيص العموم ، ولما فيه من موافقة ما ذكرناه من الأدلة .

          [ ص: 231 ] وعن الآية الثانية : بوجوب حملها على ذم التقليد فيما يطلب فيه العلم جمعا بينها وبين ما ذكرناه من الأدلة .

          وعن الخبر الأول : أنه متروك بالإجماع في محل النزاع ، فإن القائل فيه قائلان : قائل بأن الواجب التقليد ، وقائل إن الواجب إنما هو النظر ، والعلم غير مطلوب فيهما إجماعا .

          وعن الثاني : لا نسلم دلالته على الوجوب على ما سبق تعريفه [6] ، وإن دل على وجوب الاجتهاد ، لكنه لا عموم له بالنسبة إلى كل مطلوب حتى يدخل فيه محل النزاع [7] ، وإن كان عاما بلفظه لكن يجب حمله على من له أهلية الاجتهاد جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة .

          وعن الوجه الأول من المعقول : أنه وإن اجتهد العامي فلا نأمن من وقوع الخطإ منه ، بل هو أقرب إلى الخطإ لعدم أهليته ، والمحذور يكون مشتركا .

          وعن الوجه الثاني : ما سبق من الفرق .

          [8]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية