الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          المسألة الثانية

          اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد النبي عليه السلام ، واختلفوا في جواز الاجتهاد لمن عاصره .

          فذهب الأكثرون إلى جوازه عقلا ، ومنع منه الأقلون .

          ثم اختلف القائلون بالجواز في ثلاثة أمور :

          الأول : منهم من جوز ذلك للقضاة والولاة في غيبته دون حضوره ، ومنهم من جوزه مطلقا .

          الثاني : أن منهم من قال بجواز ذلك مطلقا إذا لم يوجد من ذلك منع ، ومنهم من قال : لا يكتفى في ذلك بمجرد عدم المنع بل لا بد من الإذن في ذلك ، ومنهم من قال : السكوت عنه مع العلم بوقوعه كاف .

          الثالث : اختلفوا في وقوع التعبد به سمعا ، فمنهم من قال : إنه كان متعبدا به ، ومنهم من توقف في ذلك مطلقا كالجبائي ، ومنهم من توقف في حق من حضر دون من غاب كالقاضي عبد الجبار .

          والمختار جواز ذلك مطلقا ، وأن ذلك مما وقع مع حضوره وغيبته ظنا لا قطعا .

          [ ص: 176 ] أما الجواز العقلي فيدل عليه ما دللنا به على جواز ذلك في حق النبي عليه السلام في المسألة المتقدمة .

          وأما بيان الوقوع : أما في حضرته فيدل عليه قول أبي بكر رضي الله عنه في حق أبي قتادة حيث قتل رجلا من المشركين فأخذ سلبه غيره : لا نقصد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه ، فقال النبي عليه السلام : " صدق وصدق في فتواه " [1] ولم يكن قال ذلك بغير الرأي والاجتهاد .

          وأيضا ما روي عن النبي عليه السلام أنه حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ، فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم بالرأي ، فقال عليه السلام : " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " .

          [2] وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه أمر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهني أن يحكما بين خصمين وقال لهما : " إن أصبتما فلكما عشر حسنات ، وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة " .

          [3] وأما في غيبته فيدل عليه قصة معاذ وعتاب بن أسيد حين بعثهما قاضيين إلى اليمن .

          [ ص: 177 ] فإن قيل : الموجود في عصر النبي عليه السلام قادر على معرفة الحكم بالنص وبالرسول عليه السلام ، والقادر على التوصل إلى الحكم على وجه يؤمن فيه الخطأ إذا عدل إلى الاجتهاد الذي لا يؤمن فيه الخطأ كان قبيحا ، والقبيح لا يكون جائزا .

          وأيضا فإن الحكم بالرأي في حضرة النبي عليه السلام من باب التعاطي والافتيات على النبي عليه السلام ، وهو قبيح فلا يكون جائزا ، وهذا بخلاف ما بعد النبي عليه السلام .

          وأيضا فإن الصحابة كانوا يرجعون عند وقوع الحوادث إلى النبي عليه السلام ، ولو كان الاجتهاد جائزا لهم لم يرجعوا إليه .

          وأما ما ذكرتموه من أدلة الوقوع ، فهي أخبار آحاد لا تقوم الحجة بها في المسائل القطعية .

          وبتقدير أن تكون حجة ، فلعلها خاصة بمن وردت في حقه غير عامة .

          والجواب عن السؤال الأول ما مر في جواز اجتهاد النبي عليه السلام .

          وعن الثاني : أن ذلك إذا كان بأمر رسول الله وإذنه ، فيكون ذلك من باب امتثال أمره لا من باب التعاطي والافتيات عليه .

          وعن قولهم : " إن الصحابة كانوا يرجعون في أحكام الوقائع إلى النبي عليه السلام " يمكن أن يكون ذلك فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد ، وإن ظهر غير أن القادر على التوصل إلى مقصوده بأحد طريقين لا يمتنع عليه العدول عن أحدهما إلى الآخر .

          ولا يخفى أنه إذا كان الاجتهاد طريقا يتوصل به إلى الحكم فالرجوع إلى النبي عليه السلام أيضا طريق آخر .

          وما ذكروه من أن الأخبار المذكورة في ذلك أخبار آحاد ، فهو كذلك غير أن المدعى إنما هو حصول الظن بذلك دون القطع .

          قولهم : يحتمل أن يكون ذلك خاصا بمن وردت تلك الأخبار في حقه .

          قلنا : المقصود من الأخبار المذكورة إنما هو الدلالة على وقوع الاجتهاد في زمن النبي عليه السلام ممن عاصره لا بيان وقوع الاجتهاد من كل من عاصره .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية