الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 140 ] المسألة الثانية

          اختلفوا في النبي عليه السلام وأمته بعد البعث هل هم متعبدون بشرع من تقدم ؟

          فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد في إحدى الراويتين عنه وعن بعض أصحاب الشافعي أن النبي عليه السلام كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه ، لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها .

          ومذهب الأشاعرة والمعتزلة المنع من ذلك ، وهو المختار ، ويدل على ذلك أمور أربعة :

          الأول : أن النبي عليه السلام لما بعث معاذا إلى اليمن قاضيا قال له : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي " ولم يذكر شيئا من كتب الأنبياء الأولين وسننهم ، والنبي عليه السلام أقره على ذلك ودعا له ، وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله " [1] ، ولو كانت من مدارك الأحكام الشرعية لجرت مجرى الكتاب والسنة في وجوب الرجوع إليها ، ولم يجز العدول عنها إلى اجتهاد الرأي إلا بعد البحث عنها واليأس من معرفتها .

          الثاني : أنه لو كان النبي عليه السلام متعبدا بشريعة من قبله وكذلك أمته ، لكان تعلمها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ، ولوجب على النبي عليه السلام مراجعتها وأن لا يتوقف على نزول الوحي في أحكام الوقائع التي لا يخلو للشرائع الماضية عنها ، ولوجب أيضا على الصحابة بعد النبي عليه السلام مراجعتها والبحث عنها والسؤال لناقليها عند حدوث الوقائع المختلف فيها فيما بينهم ؛ كمسألة الجد ، والعول ، وبيع أم الولد ، والمفوضة ، وحد الشرب وغير ذلك ، على نحو بحثهم عن الأخبار النبوية في ذلك ، وحيث لم ينقل شيء من ذلك علم أن شريعة من تقدم غير متعبد بها لهم [2] .

          [ ص: 141 ] الثالث : أنه لو كان متعبدا باتباع شرع من قبله إما في الكل أو البعض ، لما نسب شيء من شرعنا إليه على التقدير الأول ، ولا كل الشرع إليه على التقدير الثاني ، كما لا ينسب شرعه عليه السلام إلى من هو متعبد بشرعه من أمته ، وهو خلاف الإجماع من المسلمين .

          الرابع : أن إجماع المسلمين على أن شريعة النبي عليه السلام ناسخة لشريعة من تقدم فلو كان متعبدا بها ؛ لكان مقررا لها ومخبرا عنها لا ناسخا لها ولا مشرعا ، وهو محال .

          فإن قيل على الحجة الأولى إنما لم يتعرض معاذ لذكر التوراة والإنجيل ؛ اكتفاء منه بآيات في الكتاب تدل على اتباعهما على ما يأتي ، ولأن اسم الكتاب يدخل تحته التوراة والإنجيل لكونهما من الكتب المنزلة .

          وأما الحجة الثانية : لا نسلم أن تعلم ما قيل بالتعبد به من الشرائع ليس من فروض الكفايات ولا نسلم عدم مراجعة النبي عليه السلام لها ، ولهذا نقل عنه مراجعة التوراة في مسألة الرجم ، وما لم يراجع فيه شرع من تقدم ، إما لأن تلك الشرائع لم تكن مبينة له ، أو لأنه ما كان متعبدا باتباع الشريعة السالفة إلا بطريق الوحي ولم يوح إليه به [3]

          وأما عدم بحث الصحابة عنها ، فإنما كان لأن ما تواتر منها كان معلوما لهم وغير محتاج إلى بحث عنه ، وما كان منها منقولا على لسان الآحاد من الكفار لم يكونوا متعبدين به [4] .

          وأما الحجة الثالثة فإنما ينسب إليه ما كان متعبدا به من الشرائع بأنه من شرعه بطريق التجوز لكونه معلوما لنا بواسطته ، وإن لم يكن هو الشارع له .

          وأما الحجة الرابعة فنحن نقول بها وأن ما كان من شرعه مخالفا لشرع من تقدم فهو ناسخ له ، وما لم يكن من شرعه بل هو متعبد فيه باتباع شرع من تقدم ؛ فلا .

          [ ص: 142 ] ولهذا فإنه لا يوصف شرعه بأنه ناسخ لبعض ما كان مشروعا قبله ، كوجوب الإيمان وتحريم الكفران والزنا والقتل والسرقة وغير ذلك مما شرعنا فيه موافق لشرع من تقدم .

          سلمنا دلالة ما ذكرتموه على مطلوبكم ، لكنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة الكتاب والسنة ، أما من جهة الكتاب فآيات .

          الأولى قوله تعالى في حق الأنبياء : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) أمره باقتدائه بهداهم ، وشرعهم من هداهم ، فوجب عليه اتباعه .

          الثانية قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ) ، وقوله تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ) فدل على وجوب اتباعه لشريعة نوح [5] .

          الثالثة قوله تعالى : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ) أمره باتباع ملة إبراهيم ، والأمر للوجوب .

          الرابعة قوله تعالى : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون ) والنبي عليه السلام من جملة النبيين ، فوجب عليه الحكم بها .

          وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع إلى التوراة في رجم اليهودي [6]

          وأيضا ما روي عنه عندما طلب منه القصاص في سن كسرت ، فقال : " كتاب الله [ ص: 143 ] يقضي بالقصاص " [7] وليس في الكتب ما يقضي بالقصاص في السن سوى التوراة وهو قوله تعالى فيها : ( والسن بالسن )

          وأيضا ما روي عنه أنه قال : " من نام عن صلاة أو أنسيها فليصلها إذا ذكرها " وتلا قوله تعالى : ( أقم الصلاة لذكري ) [8] وهو خطاب مع موسى عليه السلام .

          والجواب قولهم : ( إنما لم يذكر معاذ التوراة والإنجيل لدلالة القرآن عليهما ) لا نسلم ذلك وما يذكرونه في ذلك فسيأتي الكلام عليه ، وإن سلمنا ذلك لكن لا يكون ذلك كافيا عن ذكرهما ، كما لو لم يكن ما في القرآن من ذكر السنة والقياس على ما بيناه [9] كافيا أو أن لا يكون إلى ذكر السنة والقياس في خبر معاذ حاجة ، وكل واحد من الأمرين على خلاف الأصل .

          قولهم : ( إن الكتب السالفة مندرجة في لفظ الكتاب ) ليس كذلك ؛ لأن المتبادر من إطلاق لفظ الكتاب في شرعنا عند قول القائل : قرأت كتاب الله وحكمت بكتاب الله القرآن . ليس غير القرآن ، وذلك لما علم من معاناة المسلمين لحفظ القرآن ودراسته والعمل بموجباته دون غيره من الكتب السالفة .

          قولهم : لا نسلم أن تعلم ما تعبد به من الشرائع الماضية ليس فرضا على الكفاية .

          قلنا : لأن إجماع المسلمين قبل ظهور المخالفين على أنه لا تأثيم بترك النظر على كافة المجتهدين في ذلك [10]

          [ ص: 144 ] وأما مراجعة النبي عليه السلام التوراة فإنما كان لإظهار صدقه فيما كان قد أخبر به من أن الرجم مذكور في التوراة ، وإنكار اليهود ذلك لا لأن يستفيد حكم الرجم منها [11] ولذلك فإنه لم يرجع إليها فيما سوى ذلك .

          وما ذكروه في امتناع بحث الصحابة عن ذلك فغير صحيح ؛ لأن ما نقل من ذلك متواترا إنما يعرفه من خالط النقلة له وكان فاحصا عنه ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة شيء من ذلك ، كيف وإنه قد كان يمكن معرفة ذلك ممن أسلم من أحبار اليهود ، وهو ثقة مأمون كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما ؟ ! ولم ينقل عن النبي عليه السلام ولا عن أحد من الأمة السؤال لهم عن ذلك ، وما ذكروه على الحجة الثالثة فترك للظاهر المشهور المتبادر إلى الفهم من غير دليل فلا يسمع .

          وما ذكروه على الحجة الرابعة فمندفع ، وذلك لأن إطلاق الأمة أن شرع النبي عليه السلام ناسخ للشرائع السالفة بينهم يفهم منه أمران ؛ أحدهما : رفع أحكامها . والثاني : أنه غير متعبد بها [12]

          فما لم يثبت رفعه من تلك الأحكام بشرعه ضرورة استمراره فلا يكون ناسخا له ، فيبقى المفهوم الآخر وهو عدم تعبده به ، ولا يلزم من مخالفة دلالة الدليل على أحد مدلوليه مخالفته بالنظر إلى المدلول الآخر .

          والجواب عن المعارضة بالآية الأولى أنه إنما أمره باتباع هدى مضاف إلى جميعهم ، مشترك بينهم دون ما وقع به الخلاف فيما بينهم ، والناسخ والمنسوخ منه لاستحالة اتباعه وامتثاله ، والهدى المشترك فيما بينهم إنما هو التوحيد ، والأدلة [ ص: 145 ] العقلية الهادية إليه [13] وليس ذلك من شرعهم في شيء ، ولهذا قال : ( فبهداهم اقتده ) ولم يقل " بهم " .

          وبتقدير أن يكون المراد من الهدى المشترك ما اتفقوا فيه من الشرائع دون ما اختلفوا فيه فاتباعه له إنما كان بوحي إليه وأمر مجدد لا أنه بطريق الاقتداء بهم .

          [14] وعن قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ) أنه لا دلالة له على أنه موحى إليه بعين ما أوحي به إلى نوح والنبيين من بعده حتى يقال باتباعه لشريعتهم ، بل غايته أنه أوحى إليه كما أوحى إلى غيره من النبيين قطعا لاستبعاد ذلك وإنكاره ، وبتقدير أن يكون المراد به أنه أوحى إليه بما أوحى به إلى غيره من النبيين ، فغايته أنه أوحى إليه بمثل شريعة من قبله بوحي مبتدإ لا بطريق الاتباع لغيره .

          [15] وعن قوله تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ) أن المراد من الدين إنما هو أصل التوحيد لا ما اندرس من شريعته ، ولهذا لم ينقل عن النبي عليه السلام البحث عن شريعة نوح [16] ، وذلك مع التعبد بها في حقه ممتنع ، وحيث خصص [ ص: 146 ] نوحا بالذكر [17] مع اشتراك جميع الأنبياء في الوصية بالتوحيد كان تشريفا له وتكريما ، كما خصص روح عيسى بالإضافة إليه والمؤمنين بلفظ العباد . وعن قوله تعالى : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ) أن المراد بلفظ الملة إنما هو أصول التوحيد وإجلال الله تعالى بالعبادة دون الفروع الشرعية [18] ويدل على ذلك أربعة أوجه :

          الأول : أن لفظ الملة لا يطلق على الفروع الشرعية بدليل أنه لا يقال : ملة الشافعي وملة أبي حنيفة لمذهبيهما في الفروع الشرعية .

          الثاني : أنه قال عقيب ذلك : ( وما كان من المشركين ) ذكر ذلك في مقابلة الدين ، ومقابل الشرك إنما هو التوحيد .

          الثالث : أنه قال : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) ولو كان المراد من الدين الأحكام الفرعية لكان من خالفه فيها من الأنبياء سفيها [19] ، وهو محال .

          الرابع : أنه لو كان المراد من الدين فروع الشريعة لوجب على النبي عليه السلام البحث عنها لكونه مأمورا بها ، وذلك مع اندراسها ممتنع . ثم وإن سلمنا أن المراد بالملة الفروع الشرعية غير أنه إنما وجب عليه اتباعها بما أوحي ، ولهذا قال : ( ثم أوحينا إليك ) .

          وعن قوله تعالى : ( إنا أنزلنا التوراة ) الآية ، أن قوله : ( يحكم بها النبيون ) صيغة إخبار لا صيغة أمر ، وذلك لا يدل على وجوب اتباعها ، وبتقدير أن يكون ذلك أمرا فيجب حمله على ما هو مشترك الوجوب بين جميع الأنبياء ، وهو التوحيد [ ص: 147 ] دون الفروع الشرعية المختلف فيها فيما بينهم لإمكان تنزيل لفظ النبيين على عمومه بخلاف التنزيل على الفروع الشرعية ، كيف وإن هذه الآيات متعارضة والعمل بجميعها ممتنع ، وليس العمل بالبعض أولى من البعض .

          [20] وعن الخبر الأول : وهو رجوع النبي عليه السلام إلى التوراة في رجم اليهودي ما سبق .

          وعن الخبر الثاني : لا نسلم أن كتابنا غير مشتمل على قصاص السن بالسن ، ودليله قوله تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) وهو عام في السن وغيره .

          وعن الخبر الثالث : أنه لم يذكر الخطاب مع موسى لكونه موجبا لقضاء الصلاة عند النوم والنسيان ، وإنما أوجب ذلك بما أوحي إليه ونبه على أن أمته مأمورة بذلك ، كما أمر موسى عليه السلام .

          ثم ما ذكرتموه من النقل معارض بقوله عليه السلام : " بعثت إلى الأحمر والأسود " وكل نبي بعث إلى قومه [21] ، والنبي عليه السلام لم يكن من أقوام الأنبياء المتقدمين ، فلا يكون متعبدا بشرعهم وبما روي عنه عليه السلام أنه رأى مع عمر بن الخطاب [ ص: 148 ] قطعة من التوراة ينظر فيها فغضب وقال : ألم آت بها بيضاء نقية ، لو أدركني أخي موسى لما وسعه إلا اتباعي . [22] أخبر بأن موسى لو كان حيا لما وسعه إلا اتباعه ، فلأن لا يكون النبي عليه السلام متبعا لموسى بعد موته أولى ، وربما عورض أيضا بقوله تعالى : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) والشرعة : الشريعة ، والمنهاج : الطريق ، وذلك يدل على عدم اتباع الأخير لمن تقدم من الأنبياء ; لأن الشريعة لا تضاف إلا إلى من اختص بها دون التابع لها ، ولا حجة فيه فإن الشرائع وإن اشتركت في شيء فمختلفة في أشياء ، وباعتبار ما به الاختلاف بينها كانت شرائع مختلفة ، وذلك كما يقال : لكل إمام مذهب باعتبار اختلاف الأئمة في بعض الأحكام ، وإن وقع الاتفاق بينهم في كثير منها .

          وربما أورد النفاة في ذلك طرقا أخرى شتى ضعيفة ، آثرنا الإعراض عن ذكرها .

          وكما أن النبي عليه السلام لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم إلا بوحي مجدد لم يكن قبل بعثته على ما كان قومه عليه ، بل كان متجنبا لأصنامهم معرضا عن أزلامهم ، ولا يأكل من ذبائحهم على النصب [23] ، هذا هو مذهب أصحاب الشافعي وأئمة المسلمين .

          ومن الأصوليين من قال بالوقف وهو بعيد .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية