الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 111 ] الاعتراض الخامس والعشرون - سؤال القول بالموجب

          وحاصله يرجع إلى تسليم ما اتخذه المستدل حكما لدليله على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه .

          ومهما توجه على هذا الوجه ، كان المستدل منقطعا لتبيين أن ما نصه من الدليل لم يكن متعلقا بمحل النزاع ، وهو منحصر في قسمين ، وذلك لأن المستدل إما أن ينصب دليله على تحقيق مذهبه ، وما نقل عن إمامه من الحكم أو على إبطال ما يظنه مدركا لمذهب خصمه .

          فإن كان الأول ، فهو كما لو قال الشافعي في الملتجئ إلى الحرم : وجد سبب جواز استيفاء القصاص ، فكان استيفاؤه جائزا .

          فقال الخصم : أقول بموجب هذا الدليل ، فإن استيفاء القصاص عندي جائز ، وإنما النزاع في جواز هتك حرمة الحرم .

          وإن كان الثاني : فهو كما لو قال الشافعي في مسألة استيلاد الأب جارية ابنه : وجوب القيمة لا يمنع من إيجاب المهر كاستيلاد أحد الشريكين ، أو قال في مسألة القتل بالمثقل : التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص ، كالتفاوت في المتوسل إليه .

          فقال الخصم : أقول بموجب هذا الدليل ، وأن وجوب القيمة لا يمنع من وجوب المهر ، والتفاوت في الوسيلة لا يمنع من التفاوت في المتوسل إليه ، والنزاع إنما هو في وجوب المهر ووجوب القصاص .

          ولا يلزم من إبطال ما ذكر من الموانع إثبات وجوب المهر والقصاص ، لجواز انتفاء المقتضي لذلك أو وجود مانع آخر أو فوات شرط .

          وورود هذا النوع من القول بالموجب أغلب في المناظرات من ورود النوع الأول من جهة أن خفاء المدارك أغلب من خفاء الأحكام ؛ لكثرة المدارك وتشعبها وعدم الوقوف على ما هو معتمد الخصم من جملتها بخلاف الأحكام ، فإنه قلما يتفق الذهول عنها .

          ولهذا قد يشترك في معرفة الحكم المنقول عن الإمام الخواص والعوام دون معرفة المدارك ، فكان احتمال الخطأ في اعتقاد كون المدرك المعين هو مدرك الإمام أقرب من احتمال الخطأ فيما ينسب إلى الإمام من الحكم المدلول عليه .

          [ ص: 112 ] وقد اختلف الجدليون في وجوب تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب في هذا النوع [1] .

          فقال بعضهم : لا بد من تكليفه بذلك لاحتمال أن يكون هذا هو المأخذ عنده فإذا علم أنه لا يكلف بإبداء المأخذ عند إيراد القول بالموجب ، فقد يقول بذلك عنادا ، قصدا لإيقاف كلام خصمه ولا كذلك إذا وظف عليه بيان المأخذ فكان أفضى إلى صيانة الكلام عن الخبط والعناد فكان أولى .

          وقال آخرون : لا وجه لتكليفه بذلك بعد وفائه بشرط القول بالموجب ، وهو استبقاء محل النزاع وهو الأظهر ؛ لأنه عاقل متدين وهو أعرف بمأخذ إمامه ، فكان الظاهر من حاله الصدق فيما ادعاه ، فوجب تصديقه .

          كيف وإنا لو أوجبنا عليه إبداء المأخذ ، فإن مكنا المستدل من إبطاله والاعتراض عليه يلزم منه قلب المستدل معترضا ، والمعترض مستدلا .

          ولا يخفى ما فيه من الخبط ، وإن لم يمكن من ذلك فلا فائدة في إبداء المأخذ لإمكان ادعائه ما يصلح للتعليل ؛ ترويحا لكلامه ثقة منه بامتناع ورود الاعتراض عليه .

          وللمستدل في دفع القول بالموجب بالاعتبار الأول طرق .

          الأول : أن يقول : المسألة مشهورة بالخلاف فيما فرض فيه الكلام إن أمكن ، والشهرة بذلك دليل وقوع الخلاف فيه .

          الثاني : أن يبين أن محل النزاع لازم فيما فرض الكلام فيه ، وذلك كما لو كان حكم دليله أنه لا يجوز قتل المسلم بالذمي ، فقال المعترض : هو عندي غير جائز ، بل واجب .

          فيقول المستدل المعنى بعدم الجواز لزوم التبعة بفعله ، ويلزم من ذلك نفي الوجوب لاستحالة لزوم التبعة بفعل الواجب .

          الثالث : أن يقول المستدل : القول بالموجب فيه تغيير كلامي عن ظاهره ، فلا يكون قولا بموجبه .

          [ ص: 113 ] وذلك كما لو كان المستدل قد قال في زكاة الخيل : حيوان تجوز المسابقة عليه ، فوجبت فيه الزكاة قياسا على الإبل .

          فقال المعترض : عندي تجب فيه زكاة التجارة . والنزاع إنما هو في زكاة العين ، فيقول المستدل : إذا كان النزاع في زكاة العين ، فظاهر كلامي منصرف إليها لقرينة الحال ، ولظهور عود الألف واللام في الزكاة إلى المعهود ، وأيضا فإن لفظ الزكاة يعم زكاة العين والتجارة ، فالقول به في زكاة التجارة قول بالموجب في صورة واحدة ، وهو غير متجه [2] لأن موجب الدليل التعميم ، فالقول ببعض الموجب لا يكون قولا بالموجب بل ببعضه .

          وكذلك إذا قال في مسألة إزالة النجاسة [3] : مائع لا يزيل الحدث ، فلا يزيل الخبث كالمرقة .

          فقال المعترض : أقول به ؛ فإن الخل النجس لا يزيل الحدث ولا الخبث .

          فيقول المستدل : ظاهر كلامي إنما هو الخل الظاهر ، ضرورة وقوع النزاع فيه ، وإيراد القول بالموجب على وجه يلزم منه تغيير كلام المستدل عن ظاهره لا يكون قولا بمدلوله وموجبه ، بل بغيره فلا يكون مقبولا .

          وله في دفع القول بالموجب بالاعتبار الثاني أيضا طرق .

          الأول : أن يكون المستدل قد أفتى بما وقع مدلولا لدليله ، وفرض المعترض الكلام معه فيه وطالبه بالدليل عليه ، فإذا قال بالموجب بعد ذلك فقد سلم ما وقع النزاع فيه وأفسد على نفسه القول بالموجب بالمطالبة بالدليل عليه أولا .

          وبمثل هذا يمكن أن يجاب عن القول [4] بالاعتبار الأول أيضا .

          الثاني : أن يبين أن لقب المسألة مشهور بذلك بين النظار ، كما سبق تقريره أولا .

          الثالث : أن يبين أن محل النزاع لازم من مدلول دليله إن أمكن ، [ ص: 114 ] وذلك بأن يكون المعترض قد ساعد على وجود المقتضي لوجوب القصاص ، وكانت الموانع التي يوافق المستدل عليها منتفية والشروط متحققة [5] .

          فإذا أبطل كون المانع المذكور مانعا ، فيلزم منه الحكم المتنازع فيه ظاهرا .

          وأما قياس الدلالة والقياس في معنى الأصل ، فيرد عليهما كل ما كان واردا على قياس العلة سوى الأسئلة المتعلقة بمناسبة الوصف الجامع ، فإنها لا ترد عليهما .

          أما قياس الدلالة ؛ فلأن الوصف الجامع فيه ليس بعلة ، وأما القياس في معنى الأصل ؛ فلعدم ذكر الجامع فيه .

          والأسئلة الواردة على نفس الوصف الجامع لا ترد على القياس في معنى الأصل لعدم ذكر الجامع فيه [6] .

          ويختص قياس الدلالة بسؤال آخر ، وهو عند ما إذا كان الجامع بين الأصل والفرع أحد موجبي الأصل ، كما إذا قال القائل في مسألة الأيدي باليد الواحدة : أحد موجبي الأصل ، فالطرف المعصوم يساوي النفس ، فيه دليله الموجب الثاني ، وقرره بأن الدية أحد الموجبين في الأصل وهي واجبة في الفرع على الكل ، ويلزم من وجود أحد الموجبين في الفرع وجود الموجب الآخر ، وذلك لأن علة الموجبين في الأصل إما أن تكون واحدة أو متعددة .

          فإن كانت واحدة فيلزم من وجود أحد موجبيها في الفرع وجودها فيه ، ومن وجودها فيه وجود الموجب الآخر وهو القصاص على الكل .

          وإن كانت متعددة ، فتلازم الحكمين في الأصل دليل تلازم العلتين ، وعند ذلك فيلزم من وجود أحد الحكمين في الفرع وجود علته التي وجد بها في الأصل ويلزم من وجود علته وجود علة الحكم الآخر .

          والسؤال الوارد عليه أن يقال : لا يلزم من وجود أحد حكمي الأصل في الفرع وجود الحكم الآخر ، سواء اتحدت علتهما في الأصل أو تعددت .

          [ ص: 115 ] أما إذا اتحدت ، فلأنه لا يمتنع عند تعدد المحال وإن اتحد نوع الحكم ، أن يكون الحكم الثابت في الفرع بغير علة الأصل وهو الأولى ، لما فيه من تكثير مدارك الحكم ، فإنه أفضى إلى اقتناص مقصود الشارع من الحكم مما إذا اتحد المدرك ، وإذا كان كذلك فلا يلزم منه وجود الحكم الآخر ؛ لجواز أن لا تكون علة الفرع مستقلة بإثبات الحكم الآخر كاستقلال علة الأصل .

          وأما إذا تعددت العلة فإن وقع التلازم بينهما ، فلجواز أن تكون علة الحكم الثابت في الفرع غير علته في الأصل ، لما ذكرناه .

          وعند ذلك فلا يلزم منها وجود العلة الأخرى في الفرع ، فإنه لا يلزم من التلازم بين علة ذلك الحكم وعلة الحكم الآخر في الأصل التلازم بين علته في الفرع وعلة الحكم الآخر .

          وعلى هذا لا يكون الحكم الآخر لازما في الفرع ، وجوابه أن يقال : ثبوت أحد الحكمين في الفرع يدل ظاهرا على وجود علته التي ثبت بها في الأصل ، وإن جاز ثبوته في الفرع بغيرها ؛ لأن الأصل عدم وجود علة أخرى غير علته في الأصل .

          والقول بأن تعدد المدارك أولى معارض بأن الاتحاد أولى لما فيه من التعليل بعلة مطردة منعكسة ، وما ذكروه وإن كانت العلة فيه مطردة إلا أنها غير منعكسة ، والتعليل بالعلة المطردة المنعكسة متفق عليه ، بخلاف غير المنعكسة ، فكانت أولى .

          فإن قيل : وكما أن الأصل عدم علة أخرى في الفرع غير علة الأصل ، فالأصل عدم علة الأصل في الفرع وليس العمل بأحد الأصلين أولى من الآخر .

          قلنا : بل العمل بما ذكرناه أولى ؛ لأن العلة فيه تكون متعدية وهي متفق على صحة التعليل بها ، وما ذكروه يلزم منه أن تكون العلة في الأصل قاصرة ؛ لأن الأصل عدم وجودها في صورة أخرى ، وهي مختلف في صحة التعليل بها ، فكان ما ذكرناه أولى .

          [ ص: 116 ] خاتمة لهذا الباب

          في ترتيب الأسئلة الواردة على القياس ، والاعتراضات الواردة على القياس

          إما أن تكون من جنس واحد كالنقوض أو المعارضات في الأصل أو في الفرع ، وإما أن تكون من أجناس مختلفة كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة ونحوها .

          فإن كان الأول : فقد اتفق الجدليون على جواز إيرادها معا ، إذ لا يلزم منها تناقض ولا نزول عن سؤال إلى سؤال .

          وإن كان الثاني : فلا يخلو إما أن تكون الأسئلة غير مرتبة أو مرتبة ، فإن كانت غير مرتبة ؛ فقد أجمع الجدليون على جواز الجمع بينهما سوى أهل سمرقند ، فإنهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط .

          ويلزمهم على ذلك ما كان من الأسئلة المتعددة من جنس واحد فإنها ، وإن أفضت إلى النشر ، فالجمع بينهما غير مقبول من غير خلاف بين الجدليين .

          وإن كانت مرتبة فقد منع منه أكثر الجدليين من حيث إن المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجوده نزول عن المنع ، ومشعر بتسليم وجوده ؛ لأنه لو بقي مصرا على منع وجود الوصف فالمطالبة بتأثير ما لا وجود له محال ، وعند ذلك فلا يستحق المعترض غير جواب الأخير من الأسئلة .

          ومنهم من لم يمنع منه ، وذلك بأن يورد المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجود الوصف مقدرا لتسليم وجود الوصف ، وذلك بأن يقول : وإن سلم عن المنع تقديرا ، فلا يسلم عن المطالبة وغيرها ، ولا شك أنه أولى [7] ؛ لعدم إشعاره بالمناقضة والعود إلى منع ما سلم وجوده أولا ، كمنع وجود الوصف بعد المطالبة بتأثيره المشعر بتسليم وجوده ، وهذا هو اختيار الأستاذ أبي إسحاق [8] ، وهو المختار .

          وإذا كان لا بد من رعاية الترتيب في الأسئلة ، فأول ما تجب البداية به سؤال الاستفسار ؛ لأن من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتجه عليه .

          [ ص: 117 ] ثم بعده سؤال فساد الاعتبار ؛ لأنه نظر في فساده من جهة الجملة قبل النظر في تفصيله ، ثم سؤال فساد الوضع ؛ لأنه أخص من سؤال فساد الاعتبار كما سبق تقريره ، والنظر في الأعم يجب أن يكون قبل النظر في الأخص .

          ثم بعده منع الحكم في الأصل ، ويجب أن يكون مقدما على ما يتعلق بالنظر في العلة ؛ لأن العلة مستنبطة من حكم الأصل فهي فرع عليه ، والكلام في الفرع يجب تأخيره عن الكلام في أصله .

          ثم بعده منع وجود العلة في الأصل .

          ثم بعده النظر فيما يتعلق بعلة الوصف ، كالمطالبة وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم ، وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط ، وكون الحكم غير صالح لإفضائه إلى المقصود منه .

          ثم بعده النقض والكسر ، لكونه معارضا لدليل العلية .

          ثم بعده المعارضة في الأصل ؛ لأنه معارضة لنفس العلة فكان متأخرا عن المعارض لدليل العلية والتعدية والتركيب ؛ لأن حاصلهما يرجع إلى المعارضة في الأصل كما سبق تقريره .

          ثم بعده ما يتعلق بالفرع كمنع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه لحكم الأصل ، ومخالفته للأصل في الضابط والحكمة والمعارضة في الفرع وسؤال القلب .

          ثم بعد ذلك القول بالموجب ؛ لتضمنه تسليم كل ما يتعلق بالدليل المثمر له من تحقيق شروطه وانتفاء القوادح فيه ، وهذا آخر الأصل الخامس .

          [ ص: 118 ] الأصل السادس في معنى الاستدلال وأنواعه

          أما معناه في اللغة : فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب .

          وأما في اصطلاح الفقهاء : فإنه يطلق تارة بمعنى ذكر الدليل ، وسواء كان الدليل نصا أو إجماعا أو قياسا أو غيره .

          ويطلق على نوع خاص من أنواع الأدلة ، وهذا هو المطلوب بيانه هاهنا ، وهي عبارة عن دليل لا يكون نصا ولا إجماعا ولا قياسا .

          فإن قيل : تعريف الاستدلال بسلب غيره من الأدلة عنه ليس أولى من تعريف غيره من الأدلة بسلب حقيقة الاستدلال عنه .

          قلنا : إنما كان تعريف الاستدلال بما ذكرناه أولى بسبب سبق التعريف لحقيقة ما عداه من الأدلة دون تعريف الاستدلال كما سبق ، وتعريف الأخفى بالأظهر جائز دون العكس .

          وإذا عرف معنى الاستدلال ، فهو على أنواع ؛ منها قولهم : وجد السبب فثبت الحكم ، ووجد المانع وفات الشرط فينتفي الحكم ، فإنه دليل من حيث إن الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعا أو ظاهرا ، ولا يخفى لزوم المطلوب من ثبوت ما ذكرناه ، فكان دليلا ، وليس هو ولا إجماعا ولا قياسا فكان استدلالا .

          فإن قيل : تعريف الدليل بما يلزم من إثباته الحكم المطلوب تعريف للدليل بالمدلول ، والمدلول لا يعرف إلا بدليله ، فكان دورا ممتنعا .

          وإن سلمنا صحة الحد ، ولكن لا نسلم أن المذكور ليس بقياس فإنه إذا آل الأمر إلى إثبات المدعى ، كان مفتقرا إلى المناسبة والاعتبار ولا معنى للقياس سوى هذا .

          قلنا : أما الدور فإنما يلزم أن لو اتحدت جهة التوقف ، وليس كذلك ، وذلك لأن المطلوب إنما يتوقف على الدليل من جهة وجوده في آحاد الصور لا من جهة حقيقته ؛ لأنا نعرف حقيقة الحكم من حيث هو حكم وإن جهلنا دليل وجوده ، والدليل إنما يتوقف على لزوم المطلوب له من جهة حقيقته لا من جهة وجوده في آحاد الصور ، وإذا اختلفت الجهة فلا دور ، وما ذكروه في تحقيق [ ص: 119 ] كونه قياسا فإنما يلزم أن لو كان تقرير السببية والمانعية والشرطية لا يكون إلا بما ذكروه ، وليس ذلك بلازم لإمكان تقريره بنص يدل عليه أو إجماع .

          والثابت بالنص أو الإجماع لا يكون نصا ولا إجماعا كما تقرر قبل ، والاعتراضات الواردة على طريق تقريره ووجوه الانفصال عنها غير خافية .

          ومنها نفي الحكم لانتفاء مداركه ، كقولهم : الحكم يستدعي دليلا ، ولا دليل فلا حكم ، أما أنه يستدعي دليلا فبالضرورة .

          وأما أنه لا دليل ، فلا يدل عليه سوى البحث والسبر ، وإن الأصل في الأشياء كلها العدم ، وطريق الاعتراض بإبداء ما يصلح دليلا من نص أو إجماع أو قياس أو استدلال .

          وجوابه بالقدح في الدليل المذكور بما يساعد في كل موضع على حسبه ولا يخفى .

          وقد ترد عليه أسئلة كثيرة أوردناها في كتاب " المؤاخذات " وقررناها اعتراضا وانفصالا ، فعليك بالالتفات إليها .

          ومنها الدليل المؤلف من تسليمها لذاتها أقوال يلزم من تسليمها لذاتها تسليم قول آخر ، وذلك القول اللازم إما أن لا يكون ولا نقيضه مذكورا فيما لزم عنه بالفعل أو هو مذكور فيه [9] .

          فإن كان الأول ، فيسمى اقترانيا ، وأقل ما يتركب من مقدمتين ولا يزيد عليهما ، وكل مقدمة تشتمل على مفردين ، الواحد منهما مكرر في المقدمتين ، ويسمى " حدا أوسط " والمفردان الآخران اللذان بهما افتراق المقدمتين منهما يكون المطلوب اللازم ، ويسمى أحدهما وهو ما كان محكوم به في المطلوب " حدا أكبر " وما كان منهما محكوما عليه في المطلوب يسمى " حدا أصغر " والمقدمة التي فيها الحد الأكبر " كبرى " والتي فيها الحد الأصغر " صغرى " .

          ثم هيئة الحد الأوسط في نسبته إلى الحدين المختلفين تسمى " شكلا " [10] [ ص: 120 ] وهيئته في النسبة إما بكونه محمولا على الحد الأصغر وموضوعا للحد الأكبر ويسمى الشكل الأول ، وإما بكونه محمولا عليهما ويسمى الشكل الثاني ، وإما بكونه موضوعا لهما ويسمى الشكل الثالث ، وإما بكونه موضوعا للأصغر ومحمولا على الأكبر ويسمى الشكل الرابع .

          وهو بعيد عن الطباع ومستغنى عنه بباقي الأشكال فلنقتصر على ذكر ما قبله من الأشكال الثلاثة .

          أما الشكل الأول منها : فهو أبينها وما بعده فمتوقف في معرفة ضروبه [11] عليه وهو منتج للمطالب الأربعة : الكلي موجبا وسالبا والجزئي موجبا وسالبا ، وشرطه في الإنتاج إيجاب صغراه وأن تكون في حكم الموجبة وكلية كبراه .

          وضروبه المنتجة أربعة :

          الضرب الأول : من كليتين موجبتين ، كقولنا : كل وضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية ، واللازم كل وضوء يفتقر إلى النية [12] .

          الضرب الثاني : من كلية صغرى موجبة وكلية كبرى سالبة ، كقولنا : كل وضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية ، واللازم لا شيء من الوضوء يصح بدون النية .

          [ ص: 121 ] الضرب الثالث : بعض الوضوء عبادة [13] وكل عبادة تفتقر إلى النية ، واللازم ؛ بعض الوضوء يفتقر إلى النية .

          الضرب الرابع : بعض الوضوء عبادة ، ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم بعض الوضوء لا يصح بدون النية [14] .

          الشكل الثاني ، وشروطه في الإنتاج اختلاف مقدمتيه في الكيفية ، وكلية كبراه [15] .

          وضروبه المنتجة أربعة :

          الضرب الأول : من كليتين ؛ الصغرى موجبة والكبرى سالبة ، كقولنا : كل بيع غائب فصفات المبيع فيه مجهولة ، ولا شيء مما يصح بيعه صفات المبيع فيه مجهولة ، واللازم لا شيء من بيع الغائب صحيح .

          الضرب الثاني : من كلية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة ، كقولنا : لا شيء من بيع الغائب معلوم الصفات ، وكل بيع صحيح فمعلوم الصفات واللازم كالذي قبله .

          الضرب الثالث : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة ، كقولنا : بعض بيع الغائب مجهول الصفات ، ولا شيء مما يصح بيعه مجهول الصفات ، ولازمه : بعض بيع الغائب لا يصح .

          الضرب الرابع : من جزئية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة ، كقولنا : ليس [ ص: 122 ] كل بيع غائب معلوم الصفات ، وكل بيع صحيح معلوم الصفات ، ولازمه كلازم الذي قبله [16] .

          والإنتاج في هذا الشكل غير بين بنفسه ، بل هو مفتقر إلى بيان وذلك بأن تعكس [17] الكبرى من الأول وتبقيها كبرى بحالها ، فإنه يعود إلى الضرب الثاني من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب[18] وتعكس الصغرى من الثاني فتجعلها كبرى ، ثم تستنتج وتعكس النتيجة فيعود إلى عين المطلوب [19] وأن تعكس الكبرى من الثالث وتبقيها كبرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب [20] والضرب الرابع منه لا يتبين بالعكس ، لأنك إن عكست [ ص: 123 ] الكبرى منه عادت جزئية ، ولا قياس عن جزئيتين ، والصغرى فلا عكس لها [21] ، وإن شئت بينت الإنتاج بالخلف [22] ، وهو أن تأخذ نقيض النتيجة من كل ضرب منه وتجعله صغرى للمقدمة الكبرى من ذلك الضرب ، فإنه ينتج نقيض المقدمة الصغرى الصادقة وهو محال ، وليس لزوم المحال عن نفس الصورة القياسية لتحقق شروطها ، ولا عن نفس المقدمة الكبرى لكونها صادقة ، فكان لازما عن نقيض المطلوب ، فكان محالا وإلا لما لزم عنه المحال ، وإذا كان نقيض المطلوب محالا كان المطلوب الأول هو الصادق [23] .

          [ ص: 124 ] الشكل الثالث : وشرط إنتاجه إيجاب صغراه ، أو أن تكون في حكم الموجبة وكلية إحدى مقدمتيه ، ولا ينتج غير الجزئي الموجب والسالب ، وضروبه المنتجة ستة :

          الضرب الأول : من كليتين موجبتين ، كقولنا : كل بر مطعوم ، وكل بر ربوي ، ولازمه : بعض المطعوم ربوي .

          الضرب الثاني : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية موجبة كبرى ، كقولنا : بعض البر مطعوم وكل بر ربوي ، ولازمه كلازم ما قبله .

          الضرب الثالث : من كلية موجبة صغرى وجزئية موجبة كبرى ، كقولنا : كل بر مطعوم وبعض البر ربوي ، ولازمه كلازم ما قبله .

          الضرب الرابع : من كلية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى ، كقولنا : كل بر مطعوم ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلا ، ولازمه : لا شيء من المطعوم يصح بيعه بجنسه متفاضلا .

          الضرب الخامس : من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى ، كقولنا : بعض البر ربوي ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلا ، ولازمه كلازم ما قبله .

          الضرب السادس : من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى ، كقولنا : كل بر مطعوم وبعض البر لا يصح بيعه بجنسه متفاضلا ، ولازمه كلازم ما قبله .

          وإنتاج هذا الشكل غير بين بنفسه دون بيان ، وهو أن تعكس الصغرى من الأول والثاني وتبقيها صغرى بحالها ، فإنه يعود إلى الضرب الثالث من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب ، وتعكس الصغرى من الرابع والخامس وتبقيها صغرى بحالها ، فإنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب ، وتعكس الكبرى من الثالث وتجعلها صغرى للصغرى ، ثم تعكس النتيجة فتعود إلى عين المطلوب .

          وأما السادس : منه فلا يتبين بالعكس ؛ لأنك إن عكست الصغرى عادت جزئية ولا قياس عن جزئيتين ، والكبرى فلا عكس لها .

          وإن شئت بينت بالخلف ، وهو أن تأخذ نقيض النتيجة وتجعله كبرى للصغرى في جميع ضروبه ، فإنه ينتج نقيض المقدمة الكبرى الصادقة ، ويلزم من [ ص: 125 ] ذلك كذب النقيض لما بيناه في الشكل الثاني ، ويلزمه صدق المطلوب الأول .

          وأما إن كان القسم الثاني ، وهو أن يكون اللازم أو نقيضه مذكورا فيما لزم عنه بالفعل فيسمى استثنائيا .

          ولا بد فيه من قضيتين ؛ إحداهما : استثنائية لعين أحد جزئي القضية الأخرى أو نقيضه ، ثم القضية المستثنى منها لا بد فيها من جزأين بينهما نسبة بإيجاب أو سلب .

          والنسبة الإيجابية بينهما ، إما أن تكون باللزوم والاتصال - وفي حالة السلب برفعه - أو بالعناد والانفصال وفي حالة السلب برفعه .

          فإن كان الأول ؛ فتسمى تلك القضية شرطية متصلة ، وأحد جزئيها - وهو ما دخل عليه حرف الشرط - ( مقدما ) ، والثاني - وهو ما دخل عليه حرف الجزاء - ( تاليا ) وما هي مقدمة فيه يسمى قياسا شرطيا متصلا .

          وإن كان الثاني ؛ فتسمى منفصلة ، وما هي مقدمة فيه يسمى قياسا منفصلا .

          أما الشرطي المتصل ، فشرط إنتاجه أن تكون النسبة بين المقدم والتالي كلية ؛ أي : دائمة ، وأن يكون الاستثناء إما بعين المقدم منها أو نقيض التالي ؛ وذلك لأن التالي إما أن يكون أعم من المقدم أو مساويا له .

          ولا يجوز أن يكون أخص منه ، وإلا كانت القضية كاذبة ، وعند ذلك فاستثناء عين المقدم يلزم منه عين التالي سواء كان التالي أعم من المقدم أو مساويا له ، واستثناء نقيض التالي يلزم منه نقيض المقدم .

          وأما استثناء نقيض المقدم وعين التالي فلا يلزم منه شيء ؛ لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم ، فلا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، ولا من وجود الأعم وجود الأخص .

          وإن لزم ذلك فإنما يكون عند التساوي بينهما فلا يكون الإنتاج لازما لنفس صورة الدليل بل لخصوص المادة ، وذلك كما في قولنا : دائما إن كان هذا الشيء إنسانا فهو حيوان لكنه إنسان فيلزمه أنه حيوان ، أو لكنه ليس بحيوان فيلزمه أنه ليس إنسانا .

          وأما المنفصل ، فالمنفصلة منه إما أن تكون مانعة الجمع بين الجزأين والخلو معا ، أو مانعة الجمع دون الخلو ، أو مانعة الخلو دون الجمع .

          فإن كان الأول ، فيلزم من استثناء عين كل واحد من الجزأين نقيض الآخر ومن استثناء نقيضه عين الآخر ، وذلك كما في قولنا : دائما إما أن يكون العدد [ ص: 126 ] زوجا وإما أن يكون فردا ، لكنه زوج فليس بفرد ، أو لكنه فرد ليس بزوج ، أو لكنه ليس بزوج فهو فرد ، أو لكنه ليس بفرد فهو زوج .

          وإن كان الثاني ، فاستثناء عين أحدهما يلزمه نقيض الجزء الآخر ، ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه ، وذلك كقولنا : دائما إما أن يكون الجسم جمادا وإما حيوانا لكنه حيوان فليس بجماد ، أو لكنه جماد فليس بحيوان ، ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه .

          وإن كان الثالث ؛ فاستثناء نقيض كل واحد منهما يلزم منه عين الآخر ، ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه ، وذلك كما إذا قلنا : دائما إما أن يكون المحل الأسود ، وإما لا أبيض ، فاستثناء نقيض أحدهما يلزمه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه .

          فهذه جملة ضروب هذا النوع من الاستدلال ، لخصناها في أوجز عبارة ، ومن أراد الاطلاع على ذلك بطريق الكمال والتمام فعليه بمراجعة كتبنا المخصوصة بهذا الفن .

          ولا يخفى ما يرد عليها من الاعتراضات من منع المقدمات والقوادح في الأدلة الدالة عليها على اختلاف أنواعها ، وكذلك الجواب عنها .

          ومن أنواع الاستدلال استصحاب الحال ، وفيه مسألتان :

          التالي السابق


          الخدمات العلمية