الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 5 ] الباب الرابع

          في مواقع الخلاف في القياس وإثباته على منكريه وفيه ست مسائل .

          المسألة الأولى

          يجوز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلا [1] .

          وبه قال السلف من الصحابة والتابعين والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء والمتكلمين .

          وقالت الشيعة والنظام وجماعة من معتزلة بغداد كيحيى الإسكافي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب [2] بإحالة ورود التعبد به عقلا ; وإن اختلفوا في مأخذ الإحالة العقلية كما سنبينه .

          وقال القفال من أصحاب الشافعي وأبو الحسين البصري بأن العقل موجب لورود التعبد بالقياس .

          [ ص: 6 ] والمختار إنما هو الجواز ، ويدل على ذلك الإجمال والتفصيل ، أما الإجمال فهو أنه لا خلاف بين العقلاء أنه يحسن من الشارع أن ينص ويقول لا يقضي القاضي وهو غضبان ; لأن الغضب مما يوجب اضطراب رأيه وفهمه ، فقيسوا على الغضب ما كان في معناه كالجوع والعطش والإعياء المفرط ، وأن يقول : حرمت عليكم شراب الخمر ومهما غلب على ظنونكم أن علة التحريم الشدة المطربة الصادة عن ذكر الله المفضية إلى وقوع الفتن والعداوة والبغضاء لتغطيتها على العقل ، فقيسوا عليها كل ما في معناها من النبيذ وغيره ولو كان ذلك ممتنعا عقلا لما حسن ورود الشرع بذلك .

          وأما من جهة التفصيل فمن وجهين :

          الأول هو أن العاقل إذا صح نظره واستدلاله أدرك بالأمارات الحاضرة المدلولات الغائبة ، وذلك كمن رأى جدارا مائلا منشقا فإنه يحكم بهبوطه ، أو رأى غيما رطبا وهواء باردا حكم بنزول المطر ، أو رأى إنسانا خارجا من بيت فيه قتيل وبيده سكين مخضبة بالدم ; حكم بكونه قاتلا ، فإذا رأى الشارع قد أثبت حكما في صورة من الصور ورأى ثم معنى يصلح أن يكون داعيا إلى إثبات ذلك الحكم ، ولم يظهر له ما يبطله بعد البحث التام والسبر الكامل ، فإنه يغلب على ظنه أن الحكم ثبت له ، وإذا وجد ذلك الوصف في صورة أخرى غير الصورة المنصوص عليها ولم يظهر له أيضا ما يعارضه ; فإنه يغلب على ظنه ثبوت الحكم به في حقنا ، وقد علمنا أن مخالفة حكم الله تعالى سبب للعقاب ، فالعقل يرجح فعل ما ظن فيه المصلحة ودفع المضرة على تركه ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك .

          الثاني : أن التعبد بالقياس فيه مصلحة لا تحصل دونه وهي ثواب المجتهد على اجتهاده وإعمال فكره وبحثه في استخراج علة الحكم المنصوص عليه لتعديته إلى محل آخر على ما قال عليه السلام : " ثوابك على قدر نصبك " [3] وما كان طريقا إلى تحصيل مصلحة المكلف ، فالعقل لا يحيله بل يجوزه .

          [ ص: 7 ] فإن قيل : ما ذكرتموه من جواز التعبد بالقياس بناء على ظن حصول المصلحة ودفع المضرة ; إنما يحسن إذا لم يمكن الوصول إلى ذلك بطريق يقيني ، وأما إذا أمكن فلا ، وذلك لأنه مهما أمكن الوصول إلى المطلوب بطريق يؤمن فيه من الخطأ ، فالعقل يمنع من سلوك طريق لا يؤمن فيه الخطأ ، فما لم تثبتوا أنه لم يوجد دليل شرعي قاطع يدل على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع أمة ، فاتباع الظن يكون ممتنعا عقلا .

          سلمنا أنه لم يوجد دليل قطعي على ذلك ، لكن إنما يسوغ العقل التمسك بالظن إذا لم يوجد دليل ظني راجع على ظن القياس مفض إلى حكم القياس ، وإلا كان العمل بما الخطأ فيه أقرب مما ترك [4] ، وهو ممتنع عقلا .

          سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تجويز العقل لذلك غير أنه منقوض ومعارض .

          أما النقض فبصور منها أن قول الشاهد الواحد ، بل العبيد والنساء المتمحضات في الحقوق المالية والدماء والفروج ، بل الفساق مغلب على ظن القاضي الصدق ، ومع ذلك لا يجوز له العمل به .

          ومنها : أن مدعي النبوة إذا غلب على الظن صدقه من غير دلالة المعجزة عليه لا يجوز اتباعه والعمل بقوله .

          ومنها : أن المصالح المرسلة وإن غلبت على الظن لا يجوز العمل بها .

          ومنها : أنه لو اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات أو ميتة بعشر مذكيات ; لم يجز مد اليد إلى واحدة منها ; وإن وجدت علامات بغلبة على الظن .

          وأما المعارضة فمن خمسة وعشرين وجها :

          الأول : قال النظام : إن العقل يقتضي التسوية بين المتماثلات في أحكامها ، والاختلاف بين المختلفات في أحكامها ، والشارع قد رأيناه فرق بين المتماثلات ، وجمع بين المختلفات وهو على خلاف قضية العقل ، وذلك يدل على أن القياس الشرعي غير وارد على مذاق العقل ، فلا يكون العقل مجوزا له .

          [ ص: 8 ] أما تفرقته بين المتماثلات ; فإنه فرض الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمدا دون البول والمذي ، وأوجب غسل الثوب من بول الصبية والرش عليه من بول الغلام ، ونقص من عدد الرباعية في حق المسافر الشطر دون الثنائية ، وأوجب الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها ، وحرم النظر إلى العجوز القبيحة المنظر وأباحه في حق الأمة الحسناء ، وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير ، وأوجب الجلد بالقذف بالزنا دون القذف بالكفر ، وقبل في القتل شاهدين دون الزنا ، وجلد قاذف الحر الفاسق دون العبد العفيف ، وفرق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما ، وجعل استبراء الرحم بحيضة واحدة في حق الأمة ، والحرة المطلقة بثلاث حيضات ، وأوجب تطهير غير الموضع الذي خرجت منه الريح مع أن القياس كان مقتضيا للتسوية في جميع هذه الصور ، بل ربما كان بعض الصور التي لم يثبت فيها الحكم أولى به مما ثبت فيها .

          وأما تسويته بين المختلفات فإنه سوى بين قتل الصيد عمدا وخطأ في إيجاب الضمان ، وسوى في إيجاب القتل بين الردة والزنا ، وسوى في إيجاب الكفارة بين قتل النفس والوطء في رمضان والظهار مع الاختلاف ، وذلك مما يبطل الاعتبار بالأمثال ويوجب امتناع العمل بالقياس [5] .

          الثاني : قالت الشيعة : إن القول بالتعبد بالقياس يفضي إلى الاختلاف ، وذلك عند ما إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياس مقتضاه نقيض حكم الآخر ، والاختلاف ليس من الدين لقوله تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .

          وقوله تعالى : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) .

          وقوله ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) .

          وقوله ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) .

          وقوله تعالى ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) .

          ذكر ذلك في معرض الذم ، ولا ذم على ما يكون من الدين ، وقد ذم الصحابة الاختلاف حتى قال عمر : " لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا "

          [ ص: 9 ] وأنه لما سمع ابن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين صعد المنبر وقال : " رجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفا ، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون ؟ لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت " ، وقال جرير [6] . بن كليب : " رأيت عمر ينهى عن المتعة وعليا يأمر بها ، فقلت إن بينكما لشرا " .

          وكتب علي إلى قضاته أيام خلافته : أن اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الخلاف وأرجو أن أموت كما مات أصحابي .

          الثالث : أنه إذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين ، فإما أن يقال بأن كل مجتهد مصيب ، فيلزم منه أن يكون الشيء ونقيضه حقا ، وهو محال ، وإما أن يقال بأن المصيب واحد ، وهو أيضا محال ، فإنه ليس تصويب أحد الظنين مع استوائهما دون الآخر أولى من العكس .

          الرابع : قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا " [7] ، فلو كان التنصيص منه على الأشياء الستة الربوية قصدا لقياس ما عداها من المطعومات عليها ، مع أنه كان قادرا على ما هو أصرح منه ، وللخلاف والجهل أدفع وهو أن يقول : " حرمت الربا في كل مطعوم " لكان عدولا منه عن الظاهر المفهوم إلى الخفي الموهوم [8] وهو غير لائق بفصاحته وحكمته وهو خلاف نصه .

          [ ص: 10 ] الخامس : أن الحكم في أصل القياس إن كان ثابتا بالنص امتنع إثباته في الفرع ; لعدم وجود النص في الفرع وامتناع ثبوته فيه بغير طريق حكم الأصل ، وإلا لما كان تابعا للأصل ولا فرعا له ، وإن كان ثابتا بالعلة فهو ممتنع لوجهين :

          الأول : أن الحكم في الأصل مقطوع والعلة مظنونة ، والمقطوع به لا يثبت بالمظنون .

          الثاني : أن العلة في الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عليه والمتفرع على الشيء لا يكون مثبتا لذلك الشيء وإلا كان دورا ممتنعا [9] .

          السادس : أنه لو كانت العلة منصوصة كما لو قال : " حرمت الربا في البر لكونه مطعوما " فإنه لا يقتضي التحريم في غير البر فالمستنبطة أولى بعدم التعدية ، وبيان أن المنصوصة لا تقتضي التحريم في غير محل النص قصور دلالة اللفظ عن ذلك .

          ولهذا فإنه لو قال : " أعتقت كل عبد لي أسود " عتق كل السودان من عبيده ، ولو قال : " أعتقت عبدي سالما لسواده أو لسوء خلقه " فإنه لا يعتق غانم ، وإن كان أشد سوادا من سالم وأسوأ خلقا .

          السابع : أن حكم القياس إما أن يكون موافقا للبراءة الأصلية ، أو مخالفا لها .

          [ ص: 11 ] فإن كان الأول لم يكن القياس مفيدا ; لأنه لو قدر عدمه كان مقتضاه متحققا بالبراءة الأصلية .

          وإن كان الثاني : فهو ممتنع ; لأن البراءة الأصلية متيقنة والقياس مظنون واليقين تمتنع مخالفته بالظن .

          الثامن : أنه لو جاز التعبد بالقياس عقلا في الفروع لظن المصلحة ; لجاز مثل ذلك في أصول الأقيسة وهو محال لما فيه من التسلسل .

          التاسع : أن الشرعيات مصالح ، فلو جاز إثباتها بالقياس لجاز أن يتعبد بالإخبار عن كون زيد في الدار عند غلبة الظن بكونه فيها بالأمارات ، وهو ممتنع .

          العاشر : أن الرجم بالظن جهل ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ويحكموا بما يجوز أن يكون مخالفا لحكم الله تعالى [10] .

          الحادي عشر : أنه لا يستقيم قياس إلا بعلة ، والعلة ما توجب الحكم بذاتها ، وعلل الشرع ليست كذلك ، فلا قياس [11] .

          الثاني عشر : أن حكم الله تعالى خبره ، وذلك إنما يعرف بالتوقيف لا بالقياس ; لأن القياس من فعلنا لا من توقيف الشارع .

          الثالث عشر : أن جلي الأحكام الشرعية لا يعرف إلا بالنصوص فكذلك خفيها كالمدركات ، فإن جليها وخفيها لا يدرك بغير الحس .

          الرابع عشر : أنه لو كان للشرعيات علل لاستحال انفكاكها عن أحكامها كما في العلل العقلية ، فإنه يستحيل انفكاك الحركة القائمة بالجسم عن كونه متحركا [ ص: 12 ] لما كانت الحركة علة لكونه متحركا ، وذلك يوجب ثبوت الأحكام الشرعية قبل ورود الشرع لتقدم العلل عليها وهو محال .

          الخامس عشر : أنه لو كان القياس صحيحا لكان حجة مع النص ، وذلك يوجب ثبوت الأحكام الشرعية قبل ورود الشرع لتقدم العلل عليها وهو محال .

          الخامس عشر : أنه لو كان القياس صحيحا لكان حجة مع النص ، وذلك ممتنع بالإجماع .

          السادس عشر : أن نظر القائس لا بد وأن يقع في منظور فيه ، والمنظور فيه ليس سوى النص والحكم ، وهو الواجب والحرام مثلا وليس المنظور فيه هو النص ، إذ هو غير متناول للفرع والحكم ، فهو فعل المكلف .

          ويلزم من ذلك أنه إذا لم يوجد فعل المكلف أن لا يصح القياس : ويلزم من فساد الأمرين فساد القياس الشرعي .

          السابع عشر : أنه لو جاز التعبد بتحريم شيء أو وجوبه عند ظننا أنه مشابه لأصل محرم أو واجب بناء على أمارة ، لجاز أن يتعبد بذلك عند ظننا المشابهة من غير أمارة ، وهو محال .

          الثامن عشر : أنه لو جاز التعبد بالقياس الشرعي ; لكان على عليته دلالة ، والدلالة عليها ، إما النص ، والعلة المستنبطة التي فيها الخلاف غير منصوصة .

          وإما العادات ، والعادات تكون مثبتة للأحكام الشرعية ، فلا تكون مثبتة لأماراتها .

          التاسع عشر : لو كانت المعاني المشروعة من الأصول أدلة على ثبوت الأحكام في الفروع ، ولم يقف كونها أدلة على شيء سواها كما في النصوص ، والاتفاق واقع على احتياج المستنبطة إلى دليل ، والمحتاج إلى الدليل لا يكون دليلا كما في الأحكام .

          العشرون : أنه إذا غلب على الظن تحريم ربا الفضل في البر ، إما لكونه مطعوم جنس أو مكيل جنس أو قوتا أو مالا ; فلا بد من رعاية المصلحة في ذلك ، وأي مصلحة في تحريم بيع ما هذه صفته .

          [ ص: 13 ] الحادي والعشرون : أنه لو صح معرفة الحكم الشرعي مع كونه غيبيا بالقياس لصح معرفة الأمور الغيبية بالقياس ، وهو محال .

          الثاني والعشرون : أن القياس فعل القائس ، وذلك مما لا يجوز أن يتوصل به إلى معرفة المصالح .

          الثالث والعشرون : أن القياس لا بد فيه من علة مستنبطة من حكم الأصل ، والحكم في الأصل جاز أن يكون معللا وجاز أن لا يكون معللا .

          وبتقدير كونه معللا يحتمل أن يكون الحكم ثابتا بغير ما استنبط ، وبتقدير أن يكون ثابتا بما استنبط ، يحتمل أن لا يكون متحققا في الفرع إذا كان وجوده فيه ظنيا ، وما هذا شأنه لا يصلح للدلالة .

          الرابع والعشرون : أنه لو جاز التعبد بالقياس ; لأفضى ذلك إلى تقابل الأدلة وتكافئها ، وأن يكون الرب تعالى موجبا للشيء ومحرما له ، وهو محال على الله تعالى .

          وبيان ذلك أنه قد يتردد الفرع بين أصلين حكم أحدهما الحل والآخر الحرمة ، فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكم للحل والحرمة في شيء واحد ، وذلك محال .

          الخامس والعشرون : أن القياس لا بد فيه من علة جامعة ، والعلل الشرعية لا بد وأن تكون على وزان العلل العقلية ، والعلة الشرعية يجوز عند القائلين بالقياس أن تكون ذات أوصاف ، والعلة النقلية ليست كذلك ، فإنها تستقل بحكمها كاستقلال الحركة بكون المحل الذي قامت به متحركا واستقلال السواد بكون محله أسود ونحوه .

          وأما من زعم أن العقل موجب للتعبد بالقياس الشرعي ، فقد احتج بثلاث شبه :

          الأولى : أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة ، والصور لا نهاية لها ، فلا تمكن إحاطة النصوص بها ، فاقتضى العقل وجوب التعبد بالقياس .

          الثانية : أنه إذا غلب على الظن أن المصلحة في إثبات الحكم بالقياس ، وأنه أنفى للضرر ، فيجب اتباعه عقلا تحصيلا للمصلحة ودفعا للمضرة كما يجب القيام من تحت حائط ظن سقوطه لفرط ميله ، وإن جاز أن تكون السلامة في القعود والهلاك في النهوض .

          [ ص: 14 ] الثالثة : أن العلل الشرعية ومناسبتها للأحكام مدركة بالعقل ; فكان العقل موجبا لورود التعبد بها كما توجب أحكام العلل العقلية .

          والجواب عن السؤال الأول : أنه إذا سلم أن القياس مغلب على الظن وجود المصلحة ، فهو بيان ، وهو وإن كان البيان فيه مرجوحا بالنسبة إلى البيان القاطع ، فليس ذلك مما يمنع من التعبد به مع عدم الظفر بالبيان القاطع ، وإن كان ممكن الوجود وإلا لما جاز التعبد بالنصوص الظنية وأخبار الآحاد مع إمكان أن يخلق الله تعالى لنا العلم الضروري بالأحكام ، وإمكان وجود النصوص القاطعة الجلية .

          وعلى هذا يخرج الجواب عن السؤال الثاني أيضا .

          وعن النقض بما ذكروه من الصور أن العقل يجوز ورود التعبد بكل ما هو مغلب على الظن ، غير أنه لما ورد التعبد من الشارع بامتناع العمل به ، كان ذلك لمانع الشرع لا لعدم الجواز العقلي .

          وعن المعارضة الأولى : أن كل ما ظن فيه الجامع بين الأصل والفرع ، وظهرت صلاحيته للتعليل ، فالعقل لا يمنع من ورود التعبد من الشارع فيه بالإلحاق ، وحيث فرق الشارع في الصور المذكورة ، فلم يكن ذلك لاستحالة ورود التعبد بالقياس بل إنما كان ذلك إما لعدم صلاحية ما وقع جامعا أو لمعارض له في الأصل أو في الفرع ، وحيث جمع بين مختلفات الصفات فإنما كان لاشتراكها في معنى جامع صالح للتعليل ، أو لاختصاص كل صورة بعلة صالحة للتعليل ، فإنه لا مانع عند اختلاف الصور ، وإن اتحد نوع الحكم أن تعلل بعلل مختلفة لا أن الحكم ثبت في الكل بالقياس .

          وعلى هذا نقول ما لم يظهر تعليله وصحة القياس عليه إما لعدم صلاحية الجامع أو لتحقق الفارق أو لظهور دليل التعبد ، فلا قياس فيه أصلا ، وإنما القياس فيما ظهر كون الحكم في الأصل معللا فيه ، وظهر الاشتراك في العلة وانتفى الفارق [12] .

          وعن الثانية : أن ذلك وإن أفضى إلى الاختلاف بين المجتهدين ، فإن ذلك غير محذور مطلقا ، فإن جميع الشرائع والملل كلها من عند الله وهي مختلفة ولا محذور فيها ، وإلا لما كانت مشروعة من عند الله .

          [ ص: 15 ] كيف وإن الأمة الإسلامية معصومة عن الخطأ على ما عرف [13] ، فلو كان الاختلاف مذموما ومحذورا على الإطلاق لكانت الصحابة مع اشتهار اختلافهم وتباين أقوالهم في المسائل الفقهية ، مخطئة ، بل الأمة قاطبة وذلك ممتنع .

          وعلى هذا ، فيجب حمل ما ورد من ذم الاختلاف والنهي عنه على الاختلاف في التوحيد والإيمان بالله ورسوله والقيام بنصرته ، وفيما المطلوب فيه القطع دون الظن والاختلاف بعد الوفاق ، واختلاف العامة ومن ليس له أهلية النظر والاجتهاد ، وبالجملة كل ما لا يجوز فيه الاختلاف جمعا بين الأدلة بأقصى الإمكان .

          وقوله تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) إنما المراد به نفي التناقض والاضطراب والاختلاف المناقض للبلاغة عن القرآن ، لا نفي الاختلاف في الأحكام الشرعية . [14] .

          وأما إنكار عمر على ابن مسعود وأبي بن كعب فيجب أيضا حمله على اختلافهما فيما سبق فيه الإجماع أو على اختلافهما بالنظر إلى مستفت واحد حذرا من تحيره .

          وأما قول جرير [15] لعلي وعمر عند اختلافهما في مسألة المتعة ، فيجب حمله على ما ظنه من إفضاء ذلك إلى فتنة وثوران أمر .

          وأما ما كتبه علي إلى قضاته ، فيجب حمله أيضا على خوفه من انفتاق فتق بسبب نسبته إلى تعصب لمخالفة من سبق .

          وعن الثالثة : باختيار تصويب كل مجتهد بناء على أن الحكم عند الله تعالى في حق كل واحد ما أدى إليه اجتهاده وذلك مما لا يمنع من كون الشيء ونقيضه حقا [ ص: 16 ] بالنسبة إلى شخصين مختلفين كما في الصلاة وتركها بالنسبة إلى الحائض والطاهر ، وكالجهات المختلفة في القبلة حال اشتباهها بالنسبة إلى شخصين مختلفين ، وبالنسبة إلى شخص واحد في حالتين مختلفتين ، وكجواز ركوب البحر في حق من غلب على ظنه السلامة ، وتحريمه في حق من غلب على ظنه الهلاك [16] .

          وهذا بخلاف القضايا العقلية ، وما الحق فيه في نفس الأمر لا يكون إلا واحدا معينا ، كحدوث العالم وقدمه ووجود الصانع وعدمه [17] .

          وعن الرابعة من وجهين : الأول : أنه لو كان العدول من أصرح الطريقين وأبينهما إلى أدناهما مما يمتنع ويخل بالبلاغة ، لما ساغ ورود الكتاب بالألفاظ المجملة وإرادة المعين ، والعامة وإرادة الخاص والمطلقة وإرادة المقيد والألفاظ المحتملة ، ولما ساغ أيضا مثل ذلك من الرسول مع إمكان الإتيان بألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب وهو ممتنع خلاف الواقع .

          الوجه الثاني : أنه غير بعيد أن يكون الله تعالى ورسوله قد علم أن في التعبد بالقياس والاجتهاد مصلحة للمكلفين لا تحصل من التنصيص .

          وذلك بسبب بعث دواعيهم على الاجتهاد طلبا لزيادة الثواب الحاصل به على ما نطق به النص في حق عائشة ، حتى تبقى الشريعة مستمرة غضة طرية .

          وعن الخامسة : أن الحكم في الأصل وإن كان ثابتا بالنص أو الإجماع لا بالعلة وأن ذلك غير متحقق في الفرع ، فلا نسلم وجوب ثبوت الحكم في الفرع بمثل طريق إثبات حكم الأصل ، بل يمكن أن يكون إثبات الحكم في الأصل مع كونه مقطوعا [ ص: 17 ] به وفي الفرع بوجود ما كان قد ظهر كونه باعثا على الحكم في الأصل ، ولا يلزم من كون الفرع تابعا في حكمه للأصل اتحاد الطريق المثبت للحكم فيهما ، وإلا لما كان أحدهما تابعا للآخر بل التبعية متحققة بمجرد إثبات الحكم في الفرع بما عرف كونه باعثا على الحكم في الأصل [18] .

          وعن السادسة من وجهين :

          الأول : قال بعضهم : إن علم قطعا قصده للسواد أعتق كل عبد أسود له .

          وقال بعضهم : لا يكفي مجرد القصد ، بل لا بد مع ذلك من أن ينوي بهذا اللفظ عتق جميع السودان ، فإنه كاف في عتق كل عبد له أسود ، وغايته إطلاق اللفظ الخاص ، وإرادة العام وهو سائغ لغة .

          كما حمل قوله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالهم ) على النهي عن الإتلاف العام ، وكما حمل قول القائل : " والله لا أكلت لفلان خبزا ولا شربت من مائه جرعة " إذا قصد به دفع المنة على أخذ الدراهم وغيرها من العروض حتى إنه يحنث بكل ذلك .

          وقال بعضهم : لا يكفي ذلك ; لأن مجرد النية والإرادة لذلك غير كافية في العتق ، بل إن قال مع ذلك : " وقيسوا عليه كل أسود " عتق كل عبد له أسود ، وهذا هو اختيار الصيرفي من أصحاب الشافعي ، وهو أقرب من الذي قبله .

          الثاني : أنه لا يلزم من امتناع التعدية هاهنا امتناع التعدية في العلل المستنبطة الشرعية ، وذلك لأن العتق من باب التصرف في أملاك العبيد بالزوال ، ولا كذلك في الأحكام الشرعية ، وعند ذلك فلا يلزم من امتناع التعدية هاهنا مبالغة في صيانة ملك العبيد ، مثله في الأحكام الشرعية .

          [ ص: 18 ] ولهذا فإنه لو اجتمع في المحل الواحد حقان لله وللآدمي ، وتضايق المحل عن استيفائهما كما لو وجب القتل على شخص بالردة وبالقتل الموجب للقصاص ، فإنه يقدم حق الآدمي على حق الله تعالى ويقتل قصاصا لا بالردة .

          ولهذا طرد أهل اللغة مثل ذلك وعدوه فيما لا يقتضي زوال ملك الآدمي ، فإنه لو قال القائل لغيره : " لا تأكل هذا الطعام فإنه مسموم ولا تشرب هذا الشراب فإنه مسهل ولا تجالس فلانا لسواده " فإن أهل اللغة يعدونه إلى كل ما هو من جنسه مشارك له في العلة .

          وعلى هذا نقول إنه لو قال لوكيله بع هذا العبد لسواده أو لسوء خلقه ، وكان قد قال له مهما ظهر لك رضائي بشيء من التصرفات بقرائن الأحوال دون صريح الأقوال فافعله ، وعلم أن العلة في إطلاق البيع السواد وسوء الخلق خاصة ، فله بيع كل ما شاركه في تلك العلة على وزان ذلك في الشرع .

          وعن السابعة : أنها منقوضة بمخالفة البراءة الأصلية بالنصوص الظنية وبالإقرار والشهادة والفتوى وغير ذلك .

          وعن الثامنة : أنه لو لم يرد النص بالحكم في أصول الأقيسة ، وإلا كان التعبد بإثبات أحكامها بالقياس على أصل آخر جائزا ، وإن امتنع ذلك لما فيه من التسلسل فلا يرد به التعبد لاستحالته في نفسه .

          وعن التاسعة : أنه لا يمتنع في العقل أيضا ورود التعبد بإخبارنا عن كون زيد في الدار عن ظن إذا ظهرت أمارة كونه في الدار .

          وعن العاشرة : أنها مبنية على فاسد أصول الخصوم في وجوب رعاية الصلاح والأصلح ، وهو باطل على ما عرف من أصلنا .

          [19] وإن سلمنا وجوب رعاية المصلحة فلا يمتنع أن يكون في التعبد بالقياس مصلحة ، وقد استأثر الرب تعالى بالعلم بها .

          كيف وإن ما ذكروه منقوض بورود التعبد بالنصوص الظنية وقبول الشهادة والاجتهاد في القبلة حالة الاشتباه ، وبقبول قول العدول في قيم المتلفات وأرش الجنايات وتقدير النفقات .

          [ ص: 19 ] وعن الحادية عشرة : أن العلة في القياس إنما هي بمعنى الأمارة والعلامة على الحكم في الفرع ، وذلك مما لا يمتنع التعبد باتباعه ، ولهذا فإنه لو قال الشارع : " مهما رأيتم وصف الشدة المطربة ، فاعلموا أني قضيت بتحريم ذلك المشتد المطرب " كان واجب الاتباع

          [20] وعن الثانية عشرة : أنه مهما لم يقم دليل يدل على وجوب التعبد بالقياس من نص أو إجماع ، فإنا لا نثبت به الحكم ولا ننفيه .

          وإن كان يجوز ورود التعبد به عقلا ، فإذا قال الشارع : " قد تعبدتكم بالقياس ، فمهما رأيتم الحكم قد ثبت في صورة وغلب على ظنونكم أنه ثبت لعلة ، وأنها متحققة في صورة أخرى ، فقيسوها " كان ذلك إخبارا عن إثبات الحكم في الفرع .

          وإن لم يرد مثل هذا النص ، فانعقاد الإجماع على ذلك يكون كافيا .

          وعن الثالثة عشرة : أنها قياس تمثيلي من غير جامع ، فلا يصح .

          وقد أجاب بعضهم بأن كثير الزعفران الواقع في الماء يعلم بالإدراك ، وخفيه إنما يعلم بإخبار من شاهده لا بنفس الإدراك ، وليس بحق ، فإن الخبر مستند إلى المشاهدة .

          فإن قيل : الحكم في الفرع أيضا مستند إلى الحكم الثابت بالنص ، فكان جلي الأحكام وخفيها مستندا إلى النص .

          قيل : النص الوارد في الأصل لم يكن واردا في الفرع ، ولو ورد في الفرع لما احتيج إلى القياس .

          وعن الرابعة عشرة : أنا لا نسلم أن كون المتحرك متحركا يزيد على قيام الحركة بالمحل ، فلا علة ولا معلول وإن سلمنا أن المتحركة معللة بالحركة ، ولكن ما ذكروه تمثيل من غير جامع ، وذلك لأن اسم العلة مشترك بين العلة العقلية والعلة الشرعية ; لأن العلة العقلية مقتضية للحكم بذاتها لا بوضع ، بخلاف العلة الشرعية فإنها بمعنى الباعث ، ولا يمتنع أن يكون الوصف علامة على الحكم في بعض الأزمان دون البعض ، اتباعا لوضع الشارع ولا يمتنع أن يكون الوصف باعثا لما يختص به من المصلحة في بعض الأزمان دون البعض كما أبيحت الخمرة في زمان وحرمت [ ص: 20 ] في زمان ، وجوز الصوم في زمان وحرم في زمان ، ويكون مناط معرفة ذلك اعتبار الشارع للوصف في وقت وإلغاءه في آخر .

          وعن الخامسة عشرة : أن القياس عندنا حجة مع النص الموافق ، ولا يلزم أن يكون حجة مع النص المخالف الراجح ; بدليل خبر الواحد فإنه حجة وإن لم يكن حجة مع النص المخالف الراجح .

          وعن السادسة عشرة : أن نظر القائس في الفرع وإن لم يكن في دلالة النص فهو ناظر في المعنى الجامع والدلالة على عليته وفي الحكم في الفرع ، وليس الحكم هو فعل المكلف بل الحكم إنما هو الوجوب أو التحريم المتعلق بفعله .

          وعن السابعة عشرة : أنه إن غلب على الظن مشابهة شيء لشيء محرم ، وأمكن ذلك من غير أمارة ، فالعقل يجوز ورود الشرع بالتعبد بتحريمه ، وإن لم يرد الشرع به

          [21] وعن الثامنة عشرة : بمنع الحصر فيما ذكروه ، وما المانع من طريق آخر يعرف كون الوصف الجامع علة من الإيماء أو غيره من طرق التخريج كما عرف .

          وعن التاسعة عشرة : أن العلل المستنبطة من الأصول ، وإن كانت أدلة على الأحكام في الفروع ، فليست أدلة لذواتها وصفات أنفسها الذاتية كما في العلل العقلية ، بل إنما كانت أدلة بالوضع والتوقيف ، وجعل الشارع لها أدلة ، فلذلك افتقرت في جعلها أدلة إلى غيرها .

          وعن العشرين : أن الكلام في هذه المسألة غير مختص بتصحيح القياس في آحاد الصور ، بل إنما هو في جواز ورود التعبد بالقياس في الجملة كيف وإن الوجه في ظهور المصلحة في التعليل بمطعوم جنس أو مكيل جنس أو غير ذلك مما مما قد تكلف - [22] . قد تكلف بيانه في مسائل الفروع ، فعلى الناظر في ذلك بالاعتبار حتى إن كل ما لم يظهر فيه وجه المصلحة ، ولا دفع المفسدة من الأوصاف المستنبطة بدليله فالقياس فيه غير جائز .

          [ ص: 21 ] وعن الحادية والعشرين : أن كل ما هو لو جعل الله عليه أمارة تدل عليه كما جعل ذلك في الأحكام الشرعية ; كان الحكم في معرفته كما في الأحكام ، وحيث لم يجعل له أمارة تدل عليه لم يكن معلوما .

          وعن الثانية والعشرين : لا نسلم أن التوصل إلى معرفة المصالح بفعل القائس وإنما فعل القائس وهو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع تبع لمعرفة المصلحة المأخوذة من حكم الأصل

          [23] وعن الثالثة والعشرين : أنه متى غلب على ظن القائس كون الحكم معللا وظهرت له علة في نظره مجردة عن المعارض ، وتحقق وجودها في الفرع كان له القياس وإلا فلا .

          وعن الرابعة والعشرين : أنه مهما تقابل في نظر القائس قياسان على التحليل والتحريم مثلا ; فكل واحدة من العلتين غير موجبة لحكمها لذاتها ، فلا يلزم من ذلك اجتماع الحكمين ، وعلى هذا إن ترجحت إحداهما على الأخرى كان العمل بها ، وإن تعارضا من كل وجه أمكن أن يقال بالوقف إلى حين ظهور الترجيح ، وأمكن أن يقال بتخيير في العمل بأي القياسين شاء على ما عرف من مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل .

          وعن الخامسة والعشرين : لا نسلم أن العلل الشرعية على وزان العلل العقلية ، وإنما هي بمعنى الأمارات والعلامات ، وما كان بمعنى الأمارة والعلامة لا يمتنع أن يكون الظن منه من مجموع أوصاف لا يستقل البعض بها [24] ، وذلك [ ص: 22 ] كالظن الحاصل بنزول المطر عند طلوع الغيم وتكاثفه ودنوه من الأرض وهبوب الهواء البارد ، وكذلك ظن سقوط الجدار بميله وانشقاقه وتخلخل أجزائه إلى غير ذلك .

          والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بكون العقل موجبا لورود التعبد بالقياس أن الذي لا يتناهى إنما هو الجزئيات الداخلة تحت الأجناس الكلية ، أما الأجناس الكلية فلا نسلم أنها غير متناهية .

          وعلى هذا فقد أمكن التنصيص على كل واحد من الأجناس بأن يقول الشارع : " كل مطعوم ربوي وكل مسكر حرام وكل قاتل عمدا عدوانا مقتول ، وكل سارق من حرز مثله لا شبهة له فيه مقطوع " إلى نظائره ، والحكم في كل صورة من جزئيات ذلك الجنس يكون ثابتا بالنص ، وإن افتقرنا فيه إلى الاجتهاد في إدراج كل واحد تحت جنسه ليتم إثبات الحكم فيه بالنص ، فذلك إنما هو من باب تحقيق متعلق الحكم لا أنه قياس ، وعلى هذا فلا حاجة إلى القياس .

          وإن سلمنا امتناع التعميم بغير القياس فإنما يجب التعبد به أن لو كان النبي عليه السلام مكلفا بالتعميم ، وهو غير مسلم ، بل يمكن أن يقال بأنه إنما كلف بما يقدر على تبليغه بطريق المخاطبة [25] .

          وما ذكروه مبني على وجوب رعاية الصلاح والأصلح وهو غير مسلم [26] على ما عرفناه في الكلاميات .

          وعن الثانية : أنها مبنية على كون العقل موجبا ، وعلى وجوب رعاية المصلحة وهو باطل على ما عرفناه رعاية مصالح العباد في التشريع وبناء الأحكام عليها معلوم من الدين باستقراء النصوص وهو مقتضى حكمة الله ورحمته التي وسعت كل شيء ، وإن قلنا أن ذلك واجب عليه فهو سبحانه الذي كتبه على نفسه فضلا منه وإحسانا ورحمة بعباده . .

          [ ص: 23 ] وإن سلمنا أن العقل موجب عند ظهور المصلحة في نظر العاقل ، لكن متى إذا كان علم الله تعالى متعلقا بما ظنه العبد على وفق ما ظنه العبد أو على خلافه ، الأول مسلم والثاني ممنوع .

          وعند ذلك ، فمن الجائز أن يكون الرب تعالى قد علم أنه لا مصلحة للمكلفين في القياس ، وأنه مضر في حقهم على خلاف مظنون العبد ، ومع ذلك فلا يكون العقل موجبا للقياس .

          وإن سلمنا إيجاب ذلك مطلقا لكن إذا أمكن إثبات الحكم في الفرع بطريق غير القياس أو إذا لم يمكن ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، وقد بينا إمكان ذلك في دفع الشبهة التي قبلها .

          وعن الثالثة : أنها مبنية على كون العقل موجبا ، وعلى وجوب رعاية المصلحة ، وعلى أنه لا طريق إلى معرفة الحكم في الفرع سوى القياس ، وعلى أن الله تعالى عالم بأن المصلحة في القياس كما ظنه العبد وكل ذلك ممنوع .

          وأيضا : فإن العلة الجامعة قد لا يكون طريق إثباتها المناسبة كما سبق تعريفه ، وبتقدير أن يكون لا طريق سوى المناسبة ، وأنه لا طريق إلى معرفتها إلا بالعقل فلا نسلم أنه يلزم من ذلك وجوب التعبد بها عقلا .

          وما ذكروه من العلل العقلية مبني على العلة والمعلول [27] العقليين وهو غير مسلم .

          وبتقدير تحقق ذلك ، فالعقل إنما يقضي بملازمة معلول العلة العقلية لها ، لكونها مقتضية لمعلولها بذاتها ، ولا كذلك العلل الشرعية فإنها إنما كانت عللا بمعنى الأمارات والعلامات فلا يصح القياس [28] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية