الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 223 ] المسألة الأولى

          اختلفوا في جواز التقليد في المسائل الأصولية المتعلقة بالاعتقاد في وجود الله تعالى ، وما يجوز عليه ، وما لا يجوز عليه ، وما يجب له ، وما يستحيل عليه .

          فذهب عبيد الله بن الحسن العنبري [1] ، والحشوية [2] ، إلى جوازه ، وربما قال بعضهم : إنه الواجب على المكلف ، وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام .

          وذهب الباقون إلى المنع منه ، وهو المختار لوجوه :

          الأول : أن النظر واجب ، وفي التقليد ترك الواجب فلا يجوز ، ودليل وجوبه أنه لما نزل قوله تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض ) الآية ، قال - عليه السلام - : " ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها " [3] توعد على ترك النظر والتفكر فيها ، فدل على وجوبه .

          الثاني : أن الإجماع من السلف منعقد على وجوب معرفة الله تعالى ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فالتقليد إما أن يقال : إنه محصل للمعرفة أو غير محصل لها ، القول بأنه محصل للمعرفة ممتنع لوجوه :

          الأول : أن المفتي بذلك غير معصوم ، ومن لا يكون معصوما ولا يكون خبره واجب الصدق ، وما لا يكون واجب الصدق فخبره لا يفيد العلم .

          الثاني : أنه لو كان التقليد يفيد العلم لكان العلم حاصلا لمن قلد في حدوث [ ص: 224 ] العالم ، ولمن قلد في قدمه وهو محال ؛ لإفضائه إلى الجمع بين كون العالم حادثا وقديما .

          الثالث : أنه لو كان التقليد مفيدا للعمل فالعلم بذلك إما أن يكون ضروريا أو نظريا ، لا جائز أن يكون ضروريا ، وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء ، ولأنه لو خلا الإنسان ودواعي نفسه من مبدأ نشئه لم يجد ذلك من نفسه أصلا ، والأصل عدم الدليل المفضي إليه ، فمن ادعاه لا بد له من بيانه .

          الوجه الثالث من الوجوه الأول : أن التقليد مذموم شرعا ، فلا يكون جائزا ، غير أنا خالفنا ذلك في وجوب اتباع العامي للمجتهد ، وفيما ذكرناه من الصور فيما سبق لقيام الدليل على ذلك ، والأصل عدم الدليل الموجب للاتباع فيما نحن فيه ، فنبقى على مقتضى الأصل ، وبيان ذم التقليد قوله تعالى حكاية عن قوم : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ذكر ذلك في معرض الذم لهم .

          فإن قيل : ما ذكرتموه معارض من وجوه :

          الأول : أن النظر غير واجب لوجوه :

          الأول : أنه منهي عنه ، ودليل النهي عنه الكتاب والسنة .

          أما الكتاب فقوله تعالى : ( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ) والنظر يفضي إلى فتح باب الجدال ، فكان منهيا عنه .

          وأما السنة : فما روي عن النبي - عليه السلام - أنه نهى الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر وقال : " إنما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا " [4] ، وقال - عليه السلام - : " عليكم بدين العجائز " [5] وهو ترك النظر ، ولو كان النظر واجبا لما كان منهيا عنه .

          [ ص: 225 ] الثاني : أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة الخوض والنظر في المسائل الكلامية مطلقا ، ولو وجد ذلك منهم لنقل كما نقل عنهم النظر في المسائل الفقهية ، ولو كان النظر في ذلك واجبا لكانوا أولى بالمحافظة عليه .

          الثالث : أنه لم ينقل عن النبي - عليه السلام - ولا عن أحد من الصحابة والتابعين إلى زمننا هذا الإنكار على من كان في زمانهم من العوام ، ومن ليس له أهلية النظر على ترك النظر ، مع أنهم أكثر الخلق ، بل كانوا حاكمين بإسلامهم مقرين لهم على ما هم عليه .

          الرابع : لو كان النظر في معرفة الله تعالى واجبا ، فإما أن يجب على العارف ، أو على غير العارف ؛ الأول : محال ؛ لما فيه من تحصيل .

          والثاني : يلزم منه أن يكون الجهل بالله تعالى واجبا ، ضرورة توقف النظر الواجب عليه ، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولأنه يلزم منه توقف معرفة إيجاب الله تعالى على معرفة ذاته ، ومعرفة ذاته على النظر المتوقف على إيجابه وهو دور .

          المعارضة الثانية : أن النظر مظنة الوقوع في الشبهات واضطراب الآراء والخروج إلى الضلال ، بخلاف التقليد ، فكان سلوك ما هو أقرب إلى السلامة أولى ، ولهذا صادفنا أكثر الخلق على ذلك ، فكان أولى بالاتباع .

          الثالثة : أن أدلة الأصول فيما يرجع إلى الغموض والخفاء أشد من أدلة الفروع ، فإذا جاز التقليد في الفروع مع سهولة أدلتها ، دفعا للحرج ، فلأن يجوز ذلك في الأصول أولى .

          الرابعة : أن الأصول والفروع قد استويا في التكليف بهما ، وقد جاز التقليد في الفروع فكذلك في الأصول .

          والجواب عن المعارضة الأولى بمنع النهي عن النظر ، وأما الآية فالمراد بها إنما هو الجدال بالباطل على ما قال تعالى : ( وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ) دون الجدال بالحق ، ودليله قوله تعالى : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ، وقوله تعالى : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) [ ص: 226 ] ولو كان الجدال بالحق منهيا عنه لما كان مأمورا به ، ثم كيف يكون النظر منهيا عنه وقد أثنى الله تعالى على الناظرين بقوله تعالى : ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض )

          أورد ذلك في معرض الثناء والمدح ، والمنهي عنه لا يكون ممدوحا عليه ، وبه يخرج الجواب عن نهيه عن النظر في القدر .

          وقوله - عليه السلام - : " عليكم بدين العجائز " لم يثبت ولم يصح [6] ، وإن صح فيجب حمله على التفويض إلى الله تعالى فيما قضاه وأمضاه ، جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة .

          قولهم : ( لم ينقل عن أحد من الصحابة النظر في ذلك ) يلزم منه نسبة الصحابة إلى الجهل بمعرفة الله تعالى مع كون الواحد منا عالما بذلك ، وهو محال ، وإذا كانوا عالمين بذلك فليس العلم بذلك من الضروريات ، فتعين إسناده إلى النظر والدليل ، وإنما لم تنقل عنهم المناظرة في ذلك لصفاء أذهانهم وصحة عقائدهم وعدم من يحوجهم إلى ذلك ، وحيث نقل عنهم ذلك في مسائل الفروع فلكونها اجتهادية ، والظنون فيها متفاوتة بخلاف المسائل القطعية .

          [7] قولهم : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لم ينكروا على العامة ترك النظر .

          [ ص: 227 ] قلنا : إنما لم ينكروا ذلك ؛ لأن المعرفة الواجبة كانت حاصلة لهم ، وهي المعرفة بالدليل من جهة الجملة لا من جهة التفصيل .

          قولهم : ( إن وجوب النظر يلزم منه وجوب الجهل بالله تعالى ) إنما يلزم ذلك أن لو كان الجهل مقدورا للعبد ، وهو غير مسلم .

          قولهم : ( يلزم منه الدور ) لا نسلم ذلك ، فإن الواجب الشرعي عندنا غير متوقف على النظر ، كما سبق في مسألة شكر المنعم .

          قولهم : ( إن النظر مظنة الوقوع في الشبهات والتردي في الضلالات )

          قلنا : فاعتقاد من يقلده إما أن يكون عن تقليد أو نظر ، ضرورة امتناع كونه ضروريا ، فإن كان الأول : فالكلام فيمن قلده كالكلام فيه ، وهو تسلسل ممتنع .

          وإن كان الثاني : فالمحذور اللازم من النظر لازم في التقليد مع زيادة ، وهو احتمال كذب من قلده فيما أخبره به ، بخلاف الناظر مع نفسه ، فإنه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره .

          قولهم : إن التقليد عليه الأكثر والسواد الأعظم .

          قلنا : ذلك لا يدل على أنه أقرب إلى السلامة ؛ لأن التقليد في العقائد المضلة أكثر من الصحيحة على ما قال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) ، وقال تعالى : ( وقليل ما هم ) ، وقال - عليه السلام - : " تفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة ، واحدة ناجية والباقي في النار " وإنما كان ذلك ؛ لأن أدلة الحق دقيقة غامضة لا يطلع عليها سوى أصحاب الأذهان الصافية والعقول الراجحة ، مع المبالغة في الجد والاجتهاد ، وذلك مما يندر ويقل وقوعه .

          [8] [ ص: 228 ] قولهم : ( إن أدلة الأصول أخفى فكان التقليد فيها أولى من الفروع ) ليس كذلك ، فإن المطلوب في الأصول القطع واليقين ، وذلك بخلاف الفروع ، فإن المطلوب فيها الظن وهو حاصل من التقليد ، فلا يلزم من جواز التقليد في الفروع جوازه في الأصول .

          [9] وبه يكون الجواب عن المعارضة الأخيرة أيضا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية