الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          أما الاعتراضات الواردة على قياس العلة فخمسة وعشرون اعتراضا .

          الاعتراض الأول : الاستفسار

          وهو طلب شرح دلالة اللفظ المذكور ، وإنما يحسن ذلك إذا كان اللفظ مجملا مترددا بين محامل على السوية ، أو غريبا لا يعرفه السامع المخاطب ، فعلى السائل [1] بيان كونه مجملا أو غريبا ; لأن الاستفسار عن الواضح عناد أو جهل .

          ولهذا قال القاضي أبو بكر : [2] ما ثبت فيه الاستبهام صح عنه الاستفهام ، ولذلك وجب أن يكون سؤال الاستفسار أولا وما سواه متأخرا عنه لكونه فرعا على فهم معنى اللفظ ، وصيغه متعددة : [ ص: 70 ] فمنها ( الهمزة ) كقوله : " أعندك زيد " وهي الأصل في الاستفسار إذ لا ترد لغيره ، بخلاف غيرها من الأسئلة فإنها قد ترد لغير الاستفهام .

          فمن ذلك ( هل ) وهي تلي الهمزة في الرتبة إذ هي أصل في الاستفهام كقولك " هل زيد موجود ؟ " ولكنها قد ترد نادرا للتأكيد ، كقوله تعالى : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر ) ، والمراد به : قد أتى .

          ومن ذلك ( ما ) فإنها قد ترد بمعنى الاستفهام كقولك " ما عندك ؟ " ولكنها قد ترد للنفي ، كقولك " ما رأيت أحدا " وللتعجب كقولك " ما أحسن زيدا ! " إلى معان أخر ، ولذلك كانت متأخرة في الرتبة عن ( هل ) .

          ومن ذلك ( من ) وهي قد ترد بمعنى الاستفهام كقولك " من عندك ؟ " وقد ترد بمعنى الشرط والجزاء كقوله عليه السلام : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " [3] ، وقد ترد بمعنى الخبر كقولك " جاءني من أحبه " وهي مختصة بمن يعقل دون ما لا يعقل ، وهي متأخرة في الرتبة عن ( ما ) لأن ( ما ) قد ترد لما لا يعقل كقوله تعالى : ( والسماء وما بناها ) أي ومن بناها 8 [4] . .

          ومن ذلك ( أين ) وهي سؤال عن المكان ، و ( متى ) عن الزمان ، و ( كيف ) عن الكيفية ، و ( كم ) عن الكمية ، و ( أي ) عن التمييز ، والهمزة تقوم مقام الكل في السؤال .

          وإذا ثبت أن شرط قبول الاستفسار كون اللفظ مجملا أو غريبا ، فيجب على السائل بيان ذلك لصحة سؤاله .

          فإن قيل : لا خفاء بأن ظهور الدليل شرط في صحة الدليل كما سبق ، وإنما يتم الظهور أن لو لم يكن اللفظ مجملا ، فنفي الإجمال إذا شرط في الدليل ، وبيان شرط الدليل على المستدل لا على المعترض ، قلنا : ظهور الدليل وإن كان متوقفا على نفي الإجمال ، غير أن الأصل عدم الإجمال .

          [ ص: 71 ] وسؤال الاستفسار يستدعي الإجمال المخالف للأصل ، فكان بيانه على المستفهم ، ولا تقبل منه دعوى الإجمال بجهة الاشتراك أو الغرابة بناء على أنه لم يفهم منه شيئا فيما كان ظاهرا مشهورا في ألسنة أهل اللغة والشرع لانتسابه إلى العناد لعدم خفائه عليه في الغالب ، لكن إن بين الإجمال بجهة الغرابة بطريقة أو بجهة الاشتراك بسبب تردده بين احتمالين [5] . كفاه ذلك من غير احتياج إلى بيان التسوية بينهما ; لأن الأصل عدم الترجيح ولعدم قدرته على بيان التسوية ، وقدرة المستدل على الترجيح . وطريق المستدل في جواب دفع الإجمال بجهة الغرابة [6] . التفسير إن عجز عن إبطال غرابته .

          وفي جواب دفع الإجمال بجهة الاشتراك منع تعدد محامل اللفظ إن أمكن أو بيان الظهور في أحد الاحتمالين ، وله فيه طريق تفصيلي بالنقل عن أهل الوضع أو الشرع أو ببيان أنه مشهور فيه ، والشهرة دليل الظهور والحقيقة غالبا .

          وطريق إجمالي ، وهو أن يقول : الإجمال على خلاف الأصل لإخلاله بالتفاهم ، فيجب اعتقاد ظهوره في أحد الاحتمالين نفيا للإجمال عن الكلام ، وهو وإن لزم منه التجوز في أحدهما وهو خلاف الأصل أيضا ، غير أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز كما سبق تقريره .

          وإن تعذر عليه بيان ذلك فقد يقدر على دفع الإجمال أيضا بدعوى كون اللفظ متواطئا فيهما لموافقته لنفي الإجمال والتجوز أو أن يفسر لفظه بما أراد منهما .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية