الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الاعتراض الرابع والعشرون سؤال القلب

          وهو قسمان : الأول قلب الدعوى ، والآخر قلب الدليل .

          أما قلب الدعوى فضربان ، وذلك لأن الدعوى إما أن يكون الدليل مضمرا فيها أو لا يكون كذلك ، فإن كان الأول فهو كما لو قال الأشعري : أعلم بالضرورة أن كل موجود مرئي ، فهذه دعوى فيها إضمار الدليل ، وتقديره لأنه موجود إذ الوجود هو المصحح للرؤية عنده .

          فقال المعتزلي : أعلم بالضرورة أن كل ما ليس في جهة لا يكون مرئيا ، فهذه الدعوى مقابلة للأولى من جهة أن الموجود ينقسم إلى ما هو في جهة وإلى ما ليس [ ص: 106 ] في جهة فالقول بأن ما ليس في جهة لا يكون مرئيا [1] يقابل قول القائل : كل موجود مرئي ، ودليلها مضمر فيها وتقديره أن انتفاء الجهة مانع من الرؤية .

          وأما إن لم يكن الدليل مضمرا فيها ، فكما لو قال القائل في مسألة إفضاء النظر إلى العلم أو في مسألة التحسين والتقبيح مثلا ، أعلم بالضرورة أن النظر إلى العلم وأن الكفر قبيح لعينه والشكر حسن لعينه .

          فقال المعترض : أعلم بالضرورة أن النظر لا يفضي إلى العلم وأن الكفر ليس قبيحا لعينه ولا الشكر لعينه .

          وهذا هو عين مقابلة الفاسد بالفاسد ، والمقصود منه استنطاق المدعي باستحالة دعوى الضرورة من خصمه في محل الخلاف ، فيقال وهذا لازم لك أيضا .

          وقد أورد الجدليون في هذا الباب قلب الاستبعاد في الدعوى ، وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة إلحاق الولد بأحد الأبوين المدعيين : تحكيم الولد في ذلك تحكم بلا دليل . فقال الحنفي : وتحكيم القائف في ذلك أيضا تحكم بلا دليل .

          [ ص: 107 ] قالوا والمقصود منه أيضا استنطاق المدعي بأن ما ذكره ليس بتحكم ، بل له مأخذ صحيح فيقول المعترض وكذلك ما ذكرته .

          وهو في غاية البعد ، فإنه إما أن يعترف المدعي بأن ما ذهب إليه تحكم أو أن يبين مأخذه فيه ، فإن كان تحكما فلا تغني معارضته بتحكمه في مذهبه في إبطال دعواه التحكم في مذهب خصمه ، وإن بين له مأخذا ، فلا يلزم منه أن يكون ما استبعده من مذهب خصمه كذلك .

          وإن تعرض المعترض لبيان المأخذ فيما استبعده المدعي ، فهو الجواب ولا حاجة إلى القلب .

          وأما قلب الدليل ، وهو عبارة عن بيان كون ما ذكره المستدل يدل عليه ، ثم لا يخلو إما أن يسلم المعترض أن ما ذكره المستدل من الدليل يدل له من وجه أو يبين أنه لا دلالة له على مذهب المستدل ولا من وجه .

          فإن بين أن ما ذكره لا يدل له ، وهو دليل عليه ، فهذا قلما يوجد له مثال في غير المنصوص ، وذلك كما لو استدل في توريث الخال بقوله عليه السلام : " الخال وارث من لا وارث له " [2] .

          فقال المعترض : المراد به نفي توريث الخال بطريق المبالغة ، كما يقال : الجوع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له ، معناه نفي كون الجوع زادا والصبر حيلة .

          ويدل على إرادة هذا الاحتمال أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من قوله : " لا وارث له " نفي كل وارث ، فتوريث الخال لا يتوقف عند من يراه وارثا على نفي جميع الوراث لإرثه مع الزوج والزوجة ، وإما نفي من عداه من الوراث بجهة العصوبة ، فتخصيص الخال بالذكر لا يكون مفيدا ؛ لأن من عداه من ذوي الأرحام كذلك [3] .

          [ ص: 108 ] وهذا النوع من القلب ، وإن دل على مذهب المعترض فهو شبيه بفساد الوضع من حيث إنه لا يدل على مذهب المستدل .

          وإن سلم أن ما ذكره المستدل يدل له من وجه فهذا النوع من القلب ثلاثة أقسام ، وذلك لأن المعترض إما أن يتعرض في القلب لتصحيح مذهبه أو لإبطال مذهب المستدل وإن تعرض لإبطال مذهب المستدل ، فإما أن يتعرض له صريحا بأن يجعله حكما للدليل بلا واسطة أو لا بصريحه ، بل بطريق الالتزام بأن يرتب على الدليل حكما يلزم منه إبطال مذهب المستدل .

          فإن كان من القسم الأول ، فهو كما لو قال الحنفي مثلا في مسألة الاعتكاف : لبث محض فلا يكون قربة بنفسه ، كالوقوف بعرفة .

          فقال المعترض : لبث محض ، فلا يشترط الصوم في صحته كالوقوف بعرفة ، فكل واحد منهما قد تعرض في دليله لتصحيح مذهبه ، غير أن المستدل أشار بعلته إلى اشتراط الصوم بطريق الالتزام ، والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحا .

          وعند التحقيق فتعليل المستدل في هذا المثال لنفي القربة ليس تعليلا بمناسب يقتضي نفي القربة بل بانتفاء المناسب من حيث إن اللبث المحض لا يناسب ولا يشم منه رائحة المناسبة للقرابة .

          وتعليل المعترض بأمر طردي فإنه لا مناسبة في اللبث المحض لنفي اشتراط الصوم .

          وقد يتفق أن يكون المستدل قد تعرض لتصحيح مذهبه صريحا ، والمعترض كذلك كما لو قال الشافعي في إزالة النجاسة : طهارة تراد لأجل الصلاة ، فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث .

          فقال المعترض : طهارة تراد لأجل الصلاة فتصبح بغير الماء كطهارة الحدث ، فكل واحد منهما متعرض في الدليل لتصحيح مذهبه صريحا ، والعلة في الطرفين شبهية .

          وإن كان من القسم الثاني ، وهو أن يتعرض المعترض في القلب لإبطال مذهب المستدل صريحا ، فمثاله ما لو قال الحنفي في مسألة مسح الرأس : عضو من أعضاء الوضوء ، فلا يكتفى فيه بأقل ما ينطلق عليه الاسم كسائر الأعضاء .

          [ ص: 109 ] فقال الشافعي : عضو من أعضاء الوضوء ، فلا يتقدر بالربع كسائر الأعضاء ، فكل واحد منهما قد صرح في دليله بإبطال مذهب خصمه ، وليس في ذلك ما يدل على تصحيح مذهب أحدهما فإنه ليس يلزم من إبطال مذهب كل واحد منهما تصحيح مذهب الآخر لجواز أن يكون الصحيح هو مذهب مالك وهو وجوب الاستيعاب .

          نعم ، لو كان القائل في المسألة قائلان ، والاتفاق منهما واقع على نفي قول ثالث ، فإنه يلزم من تعرض كل واحد منهما لإبطال مذهب الآخر تصحيح مذهبه ، ضرورة الاجتماع على إبطال قول ثالث ، وذلك كالحكم بالأولوية في مسألة التخلي للعبادة .

          وإن كان من القسم الثالث ، فهو كما لو قال الحنفي في مسألة بيع الغائب : عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالمعوض كالنكاح ، فقال الشافعي : عقد معاوضة فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح .

          فإن المعترض في هذا المثال لم يتعرض لإبطال مذهب المستدل في القول بالصحة صريحا بل بطريق الالتزام ، وذلك أن من قال بالصحة فقد قال بخيار الرؤية ، فخيار الرؤية لازم الصحة ، فإذا بطل خيار الرؤية فقد انتفى اللازم ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم .

          ويلتحق بأذيال هذا القسم الثالث قلب التسوية ، ومثاله قول الحنفي في مسألة إزالة النجاسة بالخل : مائع طاهر مزيل للعين والأثر ، فتحصل به الطهارة كالماء ، فيقول الشافعي : مائع طاهر مزيل للعين والأثر فتستوي فيه طهارة الحدث والخبث كالماء ، فإنه يلزم من القول بالتسوية في الخل بين طهارة الحدث والخبث عدم حصول الطهارة بالخل في الخبث لعدم حصولها به في الحدث ، والحكم بالتسوية .

          واعلم أن أعلى مراتب أنواع القلب ما بين فيه أنه يدل على المستدل ولا يدل له ، ثم يليه النوع الثاني وهو ما بين فيه أنه يدل له وعليه ، وأعلى مراتب هذا النوع ما صرح فيه بإثبات مذهب المعترض ، وهو القسم الأول منه .

          ثم ما صرح فيه بإبطال مذهب المستدل فإنه دون ما قبله من حيث إنه لا يلزم منه تصحيح مذهبه على ما تقدم ، وهو القسم الثاني منه .

          ثم القسم الثالث : فإنه وإن شارك ما قبله من القسم الثاني في إبطال مذهب المستدل ، إلا أنه يدل عليه بطريق الالتزام وما قبله بصريحه .

          [ ص: 110 ] وهذا النوع من القلب لا تعرض فيه لدلالة المستدل بالقدح ، بل غايته بيان دلالة أخرى منه تدل على نقيض مطلوبه ، فكان شبيها بالمعارضة وإن فارقها من جهة أنه معارضة نشأت من نفس دليل المستدل .

          وإذا أتينا على ما أردناه من تحقيق معنى القلب وأقسامه ، فقد اختلف في قبوله فقبله قوم من حيث إنه يشير إلى ضعف الدليل لدلالته على نقيض مذهب المستدل ، ورده آخرون من حيث إن المعترض إما أن يتعرض في دليله لنقيض حكم المستدل أو إلى غيره .

          فإن كان الأول ، فقد تعذر عليه القياس على أصل المستدل لاستحالة اجتماع حكمين متقابلين مجمع عليهما في صورة واحدة .

          وإن كان الثاني ، فلا يكون ذلك اعتراضا على الدليل .

          والحق في ذلك أنه وإن تعرض في الدليل لحكم يقابل حكم المستدل صريحا ، فقد لا يمتنع الجمع بينهما في أصل واحد ، كما ذكرناه من مثال إزالة النجاسة في القسم الأول .

          وإن تعرض لغيره فيصح القلب إذا كان ذلك لازما عما ذكره المعترض كما ذكره المعترض ، كما ذكرناه من المثال في القسم الثاني من النوع الثاني من التمثيل في مسألة بيع الغائب ، ومن التمثيل بقلب التسوية في إزالة النجاسة .

          وإنما يمتنع قبوله ؛ لأن ما ذكره المستدل إما أن يكون مقصود الشارع من الحكم المرتب عليه ملازما له أو لا يكون كذلك ، فإن كان الأول فتعليل المعترض به لمقابل حكم المستدل : إما أن يكون بحيث يلزمه مقصود من مقابل الحكم ، أو لا يكون كذلك .

          فإن كان الأول : فإما أن يكون ذلك من جهة ما علل به المستدل ، أو من غيرها ؛ فإن كان الأول ، فمحال أن يكون الوصف الواحد من جهة واحدة يناسب الحكم ومقابله ، وإن كان الثاني ، فما ذكره ليس بقلب إذ القلب لا بد فيه من اتحاد العلة في القياسين ، بل هو معارضة بدليل آخر ، وإن كان بحيث لا يلازمه المقصود ، فهو بالنسبة إلى حكم المعترض طردي ووصف المستدل مناسب أو شبهي ، فلا يكون قادحا فيه .

          وإن كان ما ذكره المستدل طرديا بالنسبة إلى ما رتبه عليه ، فهو باطل في نفسه لتعذر التعليل بالطردي المحض ، ولا حاجة إلى شيء من الاعتراضات .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية