الفصل الأول
الغزو الفكرى
مصطلح الغزو الفكري
بداية نقف عند مصطلح (الغزو الفكري) الذي يتردد في هـذا العصر كثيرا على ألسنة الباحثين، والكاتبين، والمتحدثين، وإن وقفة استقرائية، تكشف في وضوح: أن هـذا المصطلح، لم يسمع به قبل القرن الرابع عشر الهجري (القرن العشرين الميلادي) .
ولكن ليس معنى عدم وجود المصطلح، أو عدم استخدام المصطلح، قبل القرن الرابع عشر الهجري، إن معنى الغزو الفكري، ومفهومه، وموضوعه، لم يكن موجودا، لأن المستقرئ لأحوال الأمم والشعوب، يجد أن مفهوم الغزو الفكري، كان موجودا في القديم، وفي الحديث.
وكلمة: (الغزو) في اللغة العربية تعطي معنى: القصد، والطلب، والسير إلى قتال الأعداء، في ديارهم، وانتهابهم، وقهرهم، والتغلب عليهم.
ومصطلح الغزو الفكري، قصد به: (إغارة الأعداء على أمة من الأمم، بأسلحة معينة، وأساليب مختلفة، لتدمير قواها الداخلية، وعزائمها ومقوماتها. و انتهاب كل ما تملك.) [1] . [ ص: 33 ]
والفرق بين (الغزوالفكري) ، و (الغزوالعسكري) : أن الغزو العسكري يأتي للقهر وتحقيق أهداف استعمارية، دون رغبة الشعوب المستعمرة، أما الغزو الفكري فهو لتصفية العقول، والأفهام، لتكون تابعة للغازي [2] .
وقد يكون الغزو الفكري أشد وأقسى، لأن الأمة المهزومة فكريا، تسير إلى غازيها، عن طواعية، وإلى جزارها عن رضا، واقتناع، وحب، لا تحاول التمرد أو الخلاص.
وبهذا يظهر ما بين المصطلح واللغة من صلة، حيث إن كلمة الغزو استعملت في معناها، وهي الإغارة على أمة من الأمم للاعتداء عليها، وانتهابها، ولكن عن طريق الفكر وتدمير القوى المفكرة فيها، وهذا ما لفتت إليه كلمة: الفكر، التي تطابق معناها في العربية، معناها في المصطلح [3] ..
ويمكن أن يقال أيضا: إن المصطلح استعار كلمة (الغزو) للفكر، لما بينها وبين الغزو في الحرب من علاقة، في نهب الشعوب، وتدميرها، والسيطرة عليها.
ويمكن أن يقال أيضا: إن مصطلح (الغزو) مجاز على التشبيه بالحرب الفعلية، في التدمير، والتخريب، والانتهاب، والسيطرة على الشعوب.. ولهذا شاع استعمال هـذا المصطلح، وأضرابه من المصطلحات، التي تدل على هـذا المعنى، وتسير في فلكه [4] . [ ص: 34 ] ومما يسترعى الانتباه، أن بعض العلماء والباحثين ينكرون ويستنكرون وجود (الغزو الفكري) . معتبرين الحديث عنه مجرد (وهم) من الأوهام.
هؤلاء العلماء إنما ينطلقون من تصورهم لعالم اليوم، باعتباره، رغم الحدود الدولية السياسية، والحواجز الجغرافية وبسبب من التقدم الهائل في ثمرات (ثورة الاتصال) ينطلقون من تصورهم لعالم اليوم باعتباره (وطنا واحدا) لحضارة واحدة، يسمونها: (حضارة العصر) أو (الحضارة العالمية) أو (الحضارة الإنسانية) ويتصورون الأمم، والشعوب، والقوميات، مجرد درجات ومستويات في البناء الواحد، لهذه الحضارة الواحدة.
ومن ثم فليس في هـذا التصور حدود -لها حرمة الحدود-تميز (أوطانا) متعددة، لحضارات متميزة.. ولهذا فإن عبور الفكر -كل الفكر- للحدود ليس فيه عندهم شبهة (غزو) ولا أثر (عدوان) [5] .
وهذا التصور يروج له بشتى الأساليب، فثمة دعوة إلى (فكر عالمي) وهناك دعوة إلى أن الحضارة الحديثة (حضارة عالمية) وهناك دعوة إلى (ثقافة عالمية) .
فحركة ( البهائية ) التي نشأت سنة 1260هـ - 1844م تحت رعاية الاستعمار الروسي، واليهودية العالمية، والاستعمار الإنجليزي، تزعم أنها جاءت بدين عالمي جمع: البوذية ، والبرهمية ، والزرادشتية ، المانوية ، والمزدكية ، والفرق الباطنية، واليهودية ، والنصرانية ، [ ص: 35 ] والدهرية . وهذه الدعوة تجد رواجا [6] .
وهناك علماء ومفكرون، ينكرون أن يكون عالم اليوم، وطنا حضاريا واحدا. لحضارة عالمية واحدة. وهؤلاء العلماء يدعون إلى ضرورة احترام (الحدود الحضارية) .. لأن العالم في تصورهم: هـو أقرب ما يكون إلى (منتدى عالمي لحضارات متميزة) تشترك أممها في عضوية هـذا المنتدى، ومن ثم فإن بينها ما هـو (مشترك حضاري عام) .. وأيضا، فإن هـذه الأمم تتمايز حضاريا.. الأمر الذي ينفي الوحدة الحضارية، ويستدعي الحفاظ على (الهويات) الحضارية المتميزة.. لا لمجرد، الحفاظ عليها - رغم أهميته - إنما لأسباب وطنية، وقومية، وعقدية، تلعب دورها في إنهاض أمم كثيرة، من كبوتها وتراجعها، لما لهذه الخصوصيات، من قدرات على شحن شعوب هـذه الأمم، بالكبرياء المشروع، والطاقات المحركة، في معركة الإبداع.. ولما للتعددية من دور في إثراء مصادر العطاء العالمي) [7] .
وهؤلاء العلماء الذين ينكرون أن يكون عالم اليوم وطنا حضاريا واحدا، لحضارة عالمية واحدة، يذهبون إلى أن التعددية الحضارية، تكشف وتعري، روح الهيمنة، والعدوان، والاستعلاء، التي تخفيها الحضارة المتغلبة على عالمنا المعاصر. وهي الحضارة الغربية، تحت ستار: (وحدانيتها.. و عالميتها.. وإنسانيتها) . [ ص: 36 ] كما أن هـذه التعددية تقوم بدور فعال، في إذكاء روح المقاومة، عند الأمم المستضعفة حضاريا، ضد السمات والقسمات التي مثلت وتمثل (مأزق الحضارة الغربية) الذي يمسك اليوم بخناق إنسانها، وذلك حتى لا تعم مأساته كل بني الإنسان؟ [8] .
هـؤلاء العلماء يعترفون بوجود (الغزو الفكري) وينبهون على مخاطره التي تعددت و تكاد تحيط بالمجتمعات الإسلامية.
هؤلاء العلماء يرفضون دعوى (الوطن الحضاري الواحد لعالمنا المعاصر) ودعوى (الحضارة العالمية الواحدة) لهذا الوطن الواحد، ويقدمون بديلا لها؛ دعوى أن عالمنا هـو أقرب ما يكون إلى منتدى عالمي لحضارات متميزة، وأن الأمم المستضعفة حضاريا، لا بد لها من النضال الحضاري، ضد نزعة التفرد، والهيمنة، التي تمارسها الحضارة الغربية المتغلبة - بالاستعمار القديم والجديد- على غيرها من الحضارات. فالتعددية لا الواحدية، هـي الحقيقة الممثلة للواقع الحضاري، في الواقع الذي نعيش عليه. ومن ثم فإن هـناك حالات لتعدي (الحدود الحضارية) . تمثل (غزوا فكريا) لا شك فيه [9] .
وهذا التصور يؤيده واقع حياة الشعوب، فالذين يعايشون حياة الشعوب، والأمم ذات الحضارات الغنية، والتاريخ القديم، والتراث العريق، أو يغوصون في تراث هـذه الأمم وفلسفتها، ومذاهبها، وتقاليدها، وأعرافها.. يدركون أن عالمنا به -حقا- أمم متعددة، تتميز كل منها بشخصيتها القومية والحضارية المتميزة. [ ص: 37 ] وإننا إذا نظرنا في مذاهب هـذه الأمم وأعرافها، وفي معايير الحلال والحرام، والمشروع والممنوع لدى أبنائها، وفي موازين الأذواق والحاسة الجمالية، وفي تصوراتها لمكان الإنسان من الكون، وتصوراتها لمصيره بعد الموت، وتصوراتها الفلسفية لهذا الكون، وما وراء المادة والطبيعة.. إذا نحن نظرنا إلى مذاهب هـذه الأمم، في هـذه القضايا الأمهات، أدركنا السمات التي تمايز بينها - جنبا إلى جنب - مع سمات تشترك فيها، فتجمع بينها [10]
ولا يخفى أن الباحث الذي يسبر أغوار المواريث الفكرية لهذه الأمم، ويتتبع خيوط هـذا التمايز الحضاري، إلى حيث تضرب بجذورها في أعمق أعماق التاريخ. حيث كان البابليون ، والآشوريون ، والفينيقيون ، والمصريون ، وغيرهم ممن أسهموا في الفكر الإنساني، كان لهم تمايز حضاري [11] ..
ولعل نظرة فاحصة إلى أمم مثل: الصين .. والهند .. واليابان ، ستفضي بالباحث إلى الاجتماع على حقيقة تميز الشخصيات القومية، والمواريث الحضارية، وطرائق العيش، والفلسفة، والحياة، وفي النظرة للكون وتصوره، لدى شعوب وأمم هـذه الحضارات..
وكذلك الحال إذا نحن تأملنا الحضارة الغربية، منذ اليونان، وحتى نهضتها الحديثة.. والحضارة الإسلامية منذ تبلورها كثمرة لاندماج هـذه المواريث القديمة للشعوب التي دخلت الإسلام -بعد الإحياء لهذه المواريث- [ ص: 38 ] كثمرة لاندماج هـذه المواريث في الفكر الإسلامي، الذي استصفاها وطورها وفقا لمعاييره [12] .. حيث لم يكن المسلمون مجرد نقلة، ولكن إضافاتهم للأصول التي نقلوا عنها، تشهد بأنهم زادوا، وابتكروا، لأنهم كانوا ينظرون بعين إلى الثقافة اليونانية، وبالعين الأخرى إلى التعاليم الإسلامية [13] ..
على أن الذي ينبغي أن نقف عنده أن التصور الذي يرى العالم وطنا واحدا لا غزو لفكر فيه تصور يقوم على انتصار الحضارة الغربية المتغلبة، التي تعمل على مسخ الحضارات العريقة.
إذن لا بد من التصور، الذي يقوم على أن الفكر إذا نظرنا إليه، على المستوى العالمي الإنساني، وجدنا في هـذا الفكر ما هـو مشترك إنساني عام لا يختص بحضارة بذاتها، وفي هـذا الفكر أيضا ما يتميز بالخصوصية والاختصاص.
والتميز في الفكر، بين ما هـو مشترك إنساني، وبين ما هـو خصوصية حضارية، إنما تحكمه وتحدده معايير موضوعية.
فكل العلوم التي موضوعها الطبيعة وظواهرها، والمادة وخصائصها، هـي من قبيل الفكر، الذي هـو مشترك إنساني عام، وذلك لأن مناهجها تتميز بالحياد العلمي، ولأن التجربة الملموسة بالحواس المادية، هـي السبيل لاكتشاف حقائق هـذه العلوم، تلك الحقائق التي هـي بنت الدليل، والتي لا تختلف باختلاف مذاهب، [ ص: 39 ] وعقائد، وأجناس، وفلسفات المكتشفين. ومن ثم فهي لا تتغاير بتغاير القوميات، والحضارات، بل هـي واحدة على المستوى الإنساني، كما أن موضوعاتها - المادة وظواهرها - واحدة هـي الأخرى، لا تختلف ولا تتغاير باختلاف، وتغاير الحضارات. فعلوم مثل الرياضيات بفروعها، ومثل الكيمياء، والطبيعة، والطب، والجيولوجيا، لم ولن تختلف مناهجها وحقائقها، و قوانينها باختلاف الحضارات. قد تتمايز وظائف استخدام قوانينها ونظرياتها ومكتشفاتها. لكن حقائق علومها، أي (فكرها العلمي) سيظل واحدا مهما اختلفت المذاهب، والعقائد، والحضارات [14] .
والعقل البشري استطاع بما اكتسب من خبرة، ودربة، و مرانة، أن يصنف هـذه العلوم، وأن يحكم ما بينها من وشائج، وأن يستفيد بما بينها من صلاة، وروابط.
والنتائج العلمية متصل بعضها ببعض. ويعتمد بعضها على بعض. ولهذا كانت الحضارات الإنسانية، ليست ملكا لأمة بعينها. ولا هـي وقف على جماعة من الناس، لأنها صرح هـائل قد أسهمت فيه كل أمة بنصيب [15] .
ويلحق بهذه المنظومة من حقائق العلوم الطبيعية الخاصة بدراسة المادة وظواهرها وأسرارها، على نحو ما، وإلى حد كبير العديد من ثمرات التجارب الإنسانية في الوسائل، والنظم، والمؤسسات، والخبرات التي ترشد أداء الإنسان، وهو يسعى إلى تحقيق المقاصد والغايات. [ ص: 40 ] فعلى الرغم من تمايز المقاصد والغايات والمثل، فإن تجارب الإنسانية في الوسائل، والنظم، والمؤسسات، قد تكون صالحة في أحيان كثيرة للاقتباس، وللتمثل، والاستلهام.
هذا عن العلوم الطبيعية، والتجارب المادية، التي تمثل حقائقها وخبراتها فكرا عالميا، هـو من صميم (المشترك الإنساني) .
أما الشق الآخر من الفكر، الذي يدخل في صميم الخصوصية الحضارية، التي تتمايز بتمايز الحضارات، فهو ذلك الذي ينطلق من العقائد والمذاهب والفلسفات.
فكما تميزت علوم (المادة) الثابتة بالعالمية، فغدت حقائقها، وقوانينها (مشتركا إنسانيا عاما) تميزت، وتتميز علوم العقائد، والمذاهب، والفلسفات، بالخصوصية الحضارية، التي تجعلها وثيقة الصلة بطبائع الأمم، ومعتقدات الشعوب، وطرائقها في الحياة [16] .