الشطر الثاني من الكتاب في الزهد .
وفيه بيان حقيقة الزهد .
وبيان فضيلة الزهد ، وبيان درجات الزهد وأقسامه ، وبيان تفصيل الزهد في المطعم والملبس والمسكن والأثاث وضروب المعيشة ، وبيان علامة الزهد .
بيان حقيقة الزهد .
اعلم أن وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات لأن أبواب الإيمان كلها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول وعمل وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال إذ به يظهر الحال الباطن وإلا فليس القول مرادا لعينه ، وإن لم يكن صادرا عن حال سمي إسلاما ولم يسم إيمانا والعلم هو السبب في حال يجري مجرى المثمر والعمل يجري من الحال مجرى الثمرة . فلنذكر الحال مع كلا طرفيه من العلم والعمل ، أما الحال فنعني بها ما يسمى زهدا وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فكل من عدل عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه ، وإنما عدل إلى غيره لرغبته في غيره فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمى زهدا ، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبة وحبا فإذا ، يستدعي حال الزهد مرغوبا عنه ومرغوبا فيه هو خير من المرغوب عنه وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضا مرغوبا فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوبا في نفسه لا يسمى زاهدا إذ تارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهدا ، وإنما يسمى زاهدا من ترك الدراهم والدنانير لأن التراب والحجر ليسا في مظنة الرغبة وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه حتى تغلب هذه الرغبة فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشترى عنده خير من المبيع ، فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهدا فيه ، وبالإضافة إلى العوض عنه رغبة فيه وحبا ، ولذلك قال الله تعالى : " الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين " معناه : باعوه فقد يطلق الشراء بمعنى البيع ووصف إخوة يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم وكان ذلك عندهم أحب إليهم من يوسف فباعوه طمعا في العوض فإذا كل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو أيضا زاهد ولكن في الآخرة ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بمن يزهد في الدنيا كما خصص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصة ، وإن كان هو للميل في وضع اللسان .
ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه وإلا فترك المحبوب بغير الأحب محال والذي يرغب عن كل ما سوى الله تعالى حتى الفراديس ولا يحب إلا الله تعالى فهو الزاهد المطلق والذي يرغب عن كل حظ ينال في الدنيا ولم يزهد في مثل تلك الحظوظ في الآخرة بل طمع في الحور والقصور والأنهار والفواكه فهو أيضا زاهد ولكنه دون الأول ، والذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض كالذي يترك المال دون الجاه أو يترك التوسع في الأكل ولا يترك التجمل في الزينة ، فلا يستحق اسم الزاهد مطلقا ، ودرجته في الزهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصي في التائبين ، وهو زهد صحيح ، كما أن التوبة عن بعض المعاصي صحيحة فإن التوبة عبارة عن ترك المحظورات ، التي هي حظ النفس ولا يبعد أن يقدر على ترك بعض المباحات دون بعض ، كما لا يبعد ذلك في المحظورات والمقتصر على ترك المحظورات لا يسمى زاهدا وإن كان قد زهد في المحظور وانصرف عنه ولكن العادة تخصص هذا الاسم بترك المباحات فإذا ، الزهد عبارة عن رغبته عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو عن غير الله تعالى عدولا إلى الله تعالى ، وهي الدرجة العليا وكما يشترط في المرغوب فيه أن يكون خيرا عنده فيشترط في المرغوب عنه أن يكون مقدورا عليه فإن ترك ما لا يقدر عليه محال . والزهد عبارة عن ترك المباحات