الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والرجاء تقارنه المحبة ، فمن ارتجى كرمه فهو محبوب ، والمقصود من العلوم والأعمال كلها معرفة الله تعالى حتى تثمر المعرفة المحبة فإن المصير إليه ، والقدوم بالموت عليه ومن قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبته ومن فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه ، فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت حب الأهل ، والولد والمال ، والمسكن ، والعقار ، والرفقاء ، والأصحاب فهذا رجل محابه كلها في الدنيا ، فالدنيا جنته إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب ، فموته خروج من الجنة ، وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه ، ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى ، وسوى ذكره ، ومعرفته ، والفكر فيه ، والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب ، فالدنيا إذن سجنه ؛ لأن السجن عبارة عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابه ، فموته قدوم على محبوبه ، وخلاص من السجن ، ولا يخفى حال من أفلت من السجن ، وخلي بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر فهذا أول ما يلقاه كل من فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب ، فضلا عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ، ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر وفضلا عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، ورضوا بها ، واطمأنوا إليها من الأنكال ، والسلاسل ، والأغلال ، وضروب الخزي ، والنكال ، فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين ، ويلحقنا بالصالحين ولا مطمع في إجابة هذا الدعاء إلا باكتساب حب الله تعالى ، ولا سبيل إليه إلا بإخراج حب غيره من القلب ، وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى من جاه ، ومال ، ووطن فالأولى أن ندعو بما دعا به نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ إذ قال : اللهم ارزقني حبك ، وحب من أحبك ، وحب ما يقربني إلى حبك ، واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد .

والغرض أن غلبة الرجاء عند الموت أصلح لأنه أجلب للمحبة وغلبة الخوف قبل الموت أصلح لأنه أحرق لنار الشهوات ، وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه .

وقال تعالى : أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة قال لابنه : يا بني حدثني بالرخص ، واذكر لي الرجاء ، حتى ألقى الله على حسن الظن به وكذلك لما حضرت الثوري الوفاة ، واشتد جزعه جمع العلماء حوله يرجونه .

وقال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لابنه عند الموت : اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظن والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله تعالى إلى نفسه ؛ ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام أن : حببني إلى عبادي ، فقال : بماذا ؟ قال : بأن تذكر لهم آلائي ونعمائي فإذن غاية السعادة أن يموت محبا لله تعالى : وإنما تحصل المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من المحبوب : ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير فسأله فقال : الآن أفلت : فلما أصبح سأل عن حاله ، فقيل : له إنه مات البارحة .

التالي السابق


(والرجاء تقارنه المحبة، فمن ارتجى كرمه فهو محبوب، والمقصود من العلوم) والمعارف (والأعمال كلها معرفة الله تعالى) المقصود من العلوم وإليه يشير تفسير ابن عباس للعبادة بها (حتى تثمر) تلك المعرفة (المحبة) المحضة (فإن المصير إليه، والقدوم بالموت عليه و) لا يخفى أنه (من قدم على محبوبه عظم سروره) وذلك (على قدر محبته) من قبل (ومن فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه، فهما كان الغالب على القلب عند الموت حب الأهل، والمال، والولد، والمسكن، والعقار، والرفقاء، والأصحاب) وبالجملة كل ما يشغله عن الله تعالى (فهذا رجل محابه كلها في الدنيا، فالدنيا) إذا (جنته) التي يتمتع بها (إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب، فموته خروج من الجنة، وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه، ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه) فإنه يتكدر عيشه، ولا يصفو خاطره. (فأما إذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى، وسوى ذكره، ومعرفته، والفكر فيه، فالدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب، فالدنيا إذا سجنه؛ إذ السجن عبارة عن البقعة المانعة للمحبوس عن الانسراح إلى محابه، فموته قدوم على محبوبه، وخلاص من السجن، ولا يخفى حال من أفلت من السجن، وخلي بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر) . وهذا هو معنى الخبر السابق ذكره: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".

(فهذا أول ما يلقاه كل من فارق الدنيا عقب موته من الثواب والعقاب، فضلا عما أعد الله لعباده الصالحين مما لم تره عين، ولا خطر على قلب بشر) كما في خبر أبي هريرة. (وفضلا عما أعد الله للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، ورضوا بها، واطمأنوا إليها من الأنكال، والسلاسل، والأغلال، وضروب الخزي، والنكال، فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين، ويلحقنا بالصالحين) من عباده (ولا مطمع في إجابة هذا الدعاء إلا باكتساب حب الله تعالى، ولا سبيل إليه إلا بإخراج حب غيره) من كل ما يشغله عنه (من القلب، وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى من جاه، ومال، ووطن) وأهل، وأصحاب (فالأولى أن ندعو بما دعا به نبينا صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: اللهم ارزقني حبك، وحب من أحبك، وحب ما يقربني إلى حبك، [ ص: 221 ] واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد) . رواه الترمذي من حديث أبي الدرداء، وقد تقدم في كتاب الأذكار الدعوات .

(والغرض أن غلبة الرجاء عند الموت أصلح لأنه أجلب للمحبة) والأنس (وغلبة الخوف قبل الموت أصلح لأنه أحرق لنار الشهوات، وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) رواه مسلم من حديث جابر، وقد تقدم قريبا. (وقال) صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) رواه ابن أبي الدنيا، والحاكم، وابن حبان، وابن عدي، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، وتمام، كلهم من حديث واثلة، وقد تقدم قريبا من فضيلة الرجاء .

(ولما حضر سليمان) بن طرخان (التيمي الوفاة) ولفظ القوت: ولما احتضر سليمان التيمي (قال لابنه:) يا بني (حدثني بالرخص، واذكر لي الرجاء، حتى ألقى الله على حسن الظن به) كذا في القوت. وابنه هو المعتمر بن سليمان، وهذا قد أخرجه المزني في التهذيب بسنده إلى المعتمر قال: قال أبي عند موته: يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله تعالى وأنا حسن الظن به. قال ابن سعد: كان سليمان من العباد المجتهدين، وكان هو وابنه يدوران بالليل في المساجد فيصليان في هذا المسجد مرة، وفي هذا المسجد مرة حتى يصبحا. (وكذلك لما حضر سفيان الثوري الوفاة، واشتد جزعه جمع) ولفظ القوت: وكذلك لما حضر الثوري الوفاة جعل (العلماء حوله يرجونه. و) كذلك (قال أحمد بن حنبل) رحمه الله تعالى (لابنه) عبد الله (عند الموت: اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظن) . فلولا أن الرجاء وحسن الظن من فواضل المقامات ما طلبه العلماء في آخر الأوقات عند فراق العمر، ولقاء المولى، لتكون الخاتمة به، وهم يسألون الله حسن الخاتمة لطول الحياة .

(والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله تعالى إلى نفسه؛ ولذلك أوحى الله تعالى إلى داوود عليه السلام أن: حببني إلى عبادي، فقال: بماذا؟ قال: بأن تذكرهم آلائي ونعمائي) تقدم ذكره قريبا. (فإذا غاية السعادة) ونهاية الفوز (أن يموت العبد) حالة كونه (محبا لله تعالى) أي: يفارق هذا العالم وهو متصف بهذا الوصف (وإنما تحصل المحبة بالمعرفة) فإن من لم يعرف كيف يحب (وبإخراج حب الدنيا من القلب) بأن لا يميل إليها باطنا، وإن كان لا بد له منها في الظاهر بحسب عروض الحاجات الضرورية (حتى تصير الدنيا كالسجن المانع من المحبوب) أي: من وصاله، ومشاهدته، وملاقاته، (ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني) رحمه الله تعالى (في المنام وهو يطير) في الهواء (فسأله) عن حاله (فقال: الآن أفلت) أي: خلصت من السجن (فلما أصبح سأل عن حاله، فقيل: إنه مات البارحة) فدلت رؤياه على أنه كان محبوسا كالطير في القفص، فلما مات وصل إلى مطلوبه كما يفلت الطير بعد حبسه، والله الموفق .




الخدمات العلمية