الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويروى عنه عليه السلام أنه ما رفع رأسه إلى السماء حتى مات حياء من الله عز وجل وكان يقول في مناجاته إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إلي روحي سبحانك إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني فبؤسا للقانطين من رحمتك .

وقال الفضيل بلغني أن داود عليه السلام ذكر ذنبه ذات يوم فوثب صارخا واضعا يده على رأسه حتى لحق بالجبال ، فاجتمعت إليه السباع فقال : ارجعوا لا أريدكم إنما أريد كل بكاء على خطيئته فلا يستقبلني إلا ، بالبكاء ، ومن لم يكن ذا خطيئة فما يصنع بداود الخطاء .

وكان يعاتب في كثرة البكاء فيقول : دعوني أبكي قبل خروج يوم البكاء قبل تخريق العظام واشتعال الحشا وقبل أن يؤمر بي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .

وقال عبد العزيز بن عمر : لما أصاب داود الخطيئة نقص صوته فقال : إلهي بح صوتي في صفاء أصوات الصديقين .

وروي أنه عليه السلام لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه واشتد غمه ، فقال يا رب أما ترحم بكائي فأوحى الله تعالى إليه يا داود نسيت ذنبك وذكرت بكاءك ؟ فقال : إلهي وسيدي كيف أنسى ذنبي وكنت إذا تلوت الزبور كف الماء الجاري عن جريه ، وسكن هبوب الريح ، وأظلني الطير على رأسي وآنست الوحوش إلى محرابي ، إلهي وسيدي فما هذه الوحشة التي بيني وبينك ؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا داود ، ذلك أنس الطاعة وهذه وحشة المعصية ، يا داود : آدم خلق من خلقي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي وأسجدت له ملائكتي وألبسته ثوب كرامتي وتوجته بتاج وقاري ، وشكا لي الوحدة فزوجته حواء أمتي وأسكنته جنتي ، عصاني فطردته عن جواري عريانا ذليلا ، يا داود اسمع مني : والحق أقول ، أطعتنا فأطعناك وسألتنا فأعطيناك وعصيتنا فأمهلناك ، وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك .

وقال يحيى بن أبي كثير ، بلغنا أن داود عليه السلام كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له المنبر إلى البرية فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع فينادي فيها : : ألا من أراد أن يسمع نوح داود على نفسه فليأت ، قال : فتأتي الوحوش من البراري والآكام وتأتي السباع من الغياض وتأتي الهوام من الجبال وتأتي الطير من الأوكار وتأتي العذارى من خدورهن وتجتمع الناس لذلك اليوم ويأتي داود حتى يرقى المنبر ، ويحيط به بنو إسرائيل وكل صنف على حدته محيطون به ، وسليمان عليه السلام قائم على رأسه فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ ، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع ، والناس ، ثم يأخذ في أهوال القيامة وفي النياحة على نفسه فيموت من كل نوع طائفة ، فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال : يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام فيأخذ في الدعاء فبينا هو كذلك إذ ناداه بعض عباد بني إسرائيل : يا داود ، عجلت بطلب الجزاء على ربك قال : فيخر داود مغشيا عليه ، فإذا نظر سليمان إلى ما أصابه أتى بسرير فحمله عليه ، ثم أمر مناديا ينادي : ألا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير ، فليحمله فإن الذين كانوا معه قد قتلهم ذكر الجنة والنار ، فكانت المرأة تأتي بالسرير وتحمل قريبها وتقول : يا من قتله ذكر النار ، يا من قتله خوف الله ، ثم إذا أفاق داود قام ووضع يده على رأسه ودخل بيت عبادته وأغلق بابه ويقول : يا إله داود ، أغضبان أنت على داود ؟ ولا يزال يناجي ربه فيأتي سليمان ويقعد على الباب ويستأذن ثم يدخل ومعه قرص من شعير فيقول : يا أبتاه تقو بهذا على ما تريد ، فيأكل من ذلك القرص ما شاء ، الله ثم يخرج إلى بني إسرائيل فيكون بينهم .

وقال يزيد الرقاشي خرج داود ذات يوم بالناس يعظهم ويخوفهم فخرج في أربعين ألفا فمات منهم ثلاثون ألفا ، وما رجع إلا في عشرة آلاف قال وكان له جاريتان اتخذهما حتى إذا جاءه الخوف وسقط فاضطرب قعدتا على صدره وعلى رجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه ومفاصله فيموت .

وقال ابن عمر رضي الله عنهما دخل يحيى بن زكريا عليهما السلام بيت المقدس وهو ابن ثمان حجج فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارع الشعر والصوف ونظر إلى مجتهديهم قد خرقوا التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس فهاله ذلك فرجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون فقالوا : له يا يحيى ، هلم بنا ، لنلعب ، فقال : إني لم أخلق للعب ، قال : فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا ، فرجع إلى بيت المقدس وكان يخدمه نهارا ويصبح فيه ليلا حتى أتت عليه خمس عشرة سنة فخرج ولزم أطواد الأرض وغيران الشعاب فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن وقد أنقع رجليه في الماء حتى كاد العطش يذبحه وهو يقول : : وعزتك وجلالك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك ، فسأله أبواه أن يفطر على قرص كان معهما من شعير ويشرب من ذلك الماء ففعل وكفر عن يمينه فمدح بالبر فرده أبواه إلى بيت المقدس فكان إذا قام يصلي بكى حتى يبكي معه الشجر والمدر ويبكي زكريا عليه السلام لبكائه حتى يغمى عليه ، فلم يزل يبكي حتى خرقت دموعه لحم خديه وبدت أضراسه للناظرين فقالت له أمه : يا بني لو أذنت لي أن أتخذ لك شيئا تواري به أضراسك عن الناظرين فأذن لها فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتها على ، خديه ، فكان إذا قام يصلي بكى ، فإذا استنقعت دموعه في القطعتين أتت إليه أمه فعصرتهما ، فإذا رأى دموعه تسيل على ذراعي أمه قال : اللهم هذه دموعي وهذه أمي ، وأنا عبدك وأنت أرحم الراحمين ، قال له زكريا يوما :

يا بني إنما سألت ربي أن يهبك لي لتقر عيناي ، بك فقال يحيى : يا أبت أن جبريل عليه السلام أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء .

فقال زكريا عليه السلام: يا بني فابك .

وقال المسيح عليه السلام : معاشر الحواريين ، خشية الله وحب الفردوس يورثان الصبر على المشقة ويباعدان من الدنيا .

بحق أقول لكم : إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب في طلب الفردوس قليل

وقيل كان الخليل صلوات الله عليه وسلامه إذا ذكر خطيئته يغشى عليه ، ويسمع اضطراب قلبه ميلا في ميل ، فيأتيه جبريل فيقول له : ربك يقرئك السلام ويقول : هل رأيت خليلا يخاف خليله ؟ فيقول : يا جبريل ، إني إذا ذكرت خطيئتي نسيت خلتي فهذه أحوال الأنبياء عليهم السلام فدونك والتأمل فيها فإنهم أعرف خلق الله بالله وصفاته صلوات الله عليهم أجمعين وعلى ، كل عباد الله المقربين وحسبنا الله ونعم الوكيل .

التالي السابق


(ويروى عنه - عليه السلام - أنه ما رفع رأسه) بعد الخطيئة (إلى السماء حتى مات حياء من الله - عز وجل -) رواه ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد من طريق عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي، وروى ابن جرير والحاكم عن السدي أنه ما استطاع بعد الخطيئة أن يملأ عينيه من [ ص: 247 ] السماء حياء من ربه - عز وجل - حتى قبض (وكان) - عليه السلام - (يقول في مناجاته) سبحانك (إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إلي روحي سبحانك إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني فبؤسا للقانطين من رحمتك) رواه أحمد في الزهد عن عثمان بن أبي العالية قال: كان من دعاء داود - عليه السلام - فذكره .

(وقال الفضيل) بن عياض - رحمه الله تعالى - (بلغني أن داود - عليه السلام - ذكر ذنبه ذات يوم فوثب صارخا واضعا يده على رأسه حتى لحق بالجبال، فاجتمعت إليه السباع فقال: ارجعوا لا أريدكم إنما أريد كل بكاء على خطيئته فلا يستقبلني إلا بالبكاء، ومن لم يكن ذا خطيئة فما يصنع بداود الخطاء) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين .

(وكان) - عليه السلام - (يعاتب في كثرة البكاء فيقول: دعوني أبكي قبل خروج يوم البكاء قبل تخريق العظام واشتعال الحشى وقبل أن يؤمر بي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. رواه أحمد في الزهد فقال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله ابن أبي المهاجر أن داود النبي - عليه السلام - كان يعاتب في كثرة البكاء فذكره إلا أنه قال: "واشتعال اللحى" بدل "الحشى"، ورواه إبراهيم في الحلية من طريقه، وقال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي أبو محمد المدني نزيل الكوفة صدوق مات في حدود الخمسين روى له الجماعة: لما أصاب داود الخطيئة نقص صوته فقال: إلهي بح صوتي عن صفاء أصوات الصديقين.

وروى أنه - عليه السلام - لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه واشتد غمه، قال: يا رب أما ترحم بكائي فأوحى الله إليه يا داود نسيت ذنبك وذكرت بكاءك؟ فقال: إلهي وسيدي كيف أنسى ذنبي وكنت إذا تلوت الزبور كف الماء الجاري عن جريه، وسكن هبوب الريح، وأظلني الطير على رأسي وآنست الوحوش إلى محرابي، إلهي وسيدي فما هذه الوحشة التي بيني وبينك؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، ذاك أنس الطاعة وهذه وحشة المعصية، يا داود: آدم خلق من خلقي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي وأسجدت له ملائكتي وألبسته ثوب كرامتي وتوجته بتاج وقاري، وشكا إلي الوحدة فزوجته حواء أمتي وأسكنته جنتي، عصاني فطردته عن جواري عريانا ذليلا، يا داود اسمع مني: الحق أقول، أطعتنا فأطعناك وعصيتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين .

وقال يحيى بن أبي كثير الطائي مولاهم أبو نصر اليمامي ثقة ثبت كثير الإرسال، مات سنة اثنتين وثلاثين روى له الجماعة، بلغنا أن داود - عليه السلام - كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له المنبر وهو الكرسي الذي يقعد عليه إلى البرية) أي: الصحراء (فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع فينادي فيها: ألا من أراد أن يسمع نوح داود - عليه السلام - على نفسه فليأت، قال: فتأتي الوحوش من البراري والآكام وتأتي السباع من الغياض وتأتي الهوام من الجبال وتأتي الطير من الأوكار وتأتي العذارى من خدورهن [ ص: 248 ] ويجتمع الناس لذلك اليوم ويأتي داود حتى يرقى المنبر، وتحيط به بنو إسرائيل وكل صنف على حدته يحيطون به، وسليمان - عليه السلام - قائم على رأسه فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس، ثم يأخذ في ذكر أهوال القيامة) وشدائدها (وعلى النياحة على نفسه فيموت من كل نوح طائفة، فإذا رأى سليمان - عليه السلام - كثرة الموتى قال: يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام فيأخذ في الدعاء) لنفسه (فبينما هو كذلك إذ ناداه بعض عباد بني إسرائيل: يا داود، عجلت بطلب الجزاء على ربك قال: فخر داود مغشيا عليه، فإذا نظر سليمان إلى ذلك أتى بسرير فحمله عليه، ثم أمر مناديا ينادي: ألا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير فيحمله، فإن الذين كانوا معه قد قتلهم ذكر الله والجنة والنار، فكانت المرأة تأتي بالسرير وتحمل قريبها) عليه (وتقول: يا من قتله ذكر النار، يا من قتله خوف الله، ثم إذا أفاق داود قام ووضع يده على رأسه ودخل بيت عبادته وأغلق بابه ويقول: يا إله داود، أغضبان أنت على داود؟ ولا يزال يناجي، فيأتي سليمان ويقعد على الباب ويستأذن ثم يدخل ومعه قرص من شعير فيقول: يا أبتاه تقو بهذا على ما تريد، فيأكل من ذلك القرص ما شاء، ثم يخرج إلى بني إسرائيل فيكون بينهم) أخرجه بطوله ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين .

وروى ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد عن صفوان بن محرز قال: كان لداود - عليه السلام - يوم يتأوه فيه فيقول: أوه من عذاب الله، أوه من عذاب الله، أوه من عذاب الله، (وقال) أبو عمرو (يزيد) بن أبان (الرقاشي) بالتخفيف البصري القاص بالتشديد زاهد ضعيف، روى له البخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه (خرج داود) - عليه السلام - (ذات يوم بالناس يعظهم ويخوفهم فخرج في أربعين ألفا فمات منهم ثلاثون ألفا، وما رجع إلا عشرة آلاف) . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين (قال) يزيد: (وكان له) - عليه السلام - (جاريتان اتخذهما حتى إذا جاءه الخوف وسقط فاضطرب قعدتا على صدره وعلى رجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه ومفاصله فيموت) .

وروى ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد من طريق ثابت عن صفوان بن عروة قال: كان داود - عليه السلام - إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله لا يشدها إلا الله فإذا ذكر رحمته تراجعت (وقال ابن عمر رضي الله عنهما - دخل يحيى بن زكريا - عليهما السلام - بيت المقدس وهو ابن ثمان حجج فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارع الشعر والصوف) وهي الجبب منها ضيقة الكمين (ونظر إلى مجتهديهم قد خرقوا التراقي) جمع ترقوة وهي عظم الرقبة (وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس فهاله ذلك) ؛ لأنه لم يكن رأى قبل ذلك مثله (فرجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون فقالوا: يا يحيى، هلم بنا لنلعب، فقال: إني لم أخلق للعب، قال: فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا، فرجع إلىبيت المقدس وكان يخدمه نهارا ويصبح فيه ليلا) أي: يسرج السرج (حتى أتت عليه خمسة عشر سنة فخرج) هائما (ولزم أطواد الأرض) أي: جبالها (وغيران الشعاب) جمع غور، وهي المنخفضة من الأراضي، والشعاب الثنايا بين [ ص: 249 ] الجبلين، (فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن) ، وهي على أميال من بيت المقدس (وقد أنقع رجليه في الماء حتى كاد العطش يذبحه وهو يقول: وعزتك وجلالك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك، فسأله أبواه أن يفطر على قرص كان معهما من شعير ويشرب من ذلك الماء ففعل وكفر عن يمينه فمدح بالبر) يعني في قوله تعالى: وبرا بوالديه أي: كان لا يعصيهما .

(فرده أبواه إلى بيت المقدس فكان إذا قام يصلي بكى حتى تبكي معه الشجر والمدر ويبكي زكريا - عليه السلام - لبكائه حتى يغمى عليه، فلم يزل يبكي حتى أخرقت دموعه لحم خديه) أي: شقته (وبدت أضراسه للناظرين فقالت له أمه: يا بني لو أذنت لي أن أتخذ شيئا يواري أضراسك فأذن لها فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتهما على خديه، فكان إذا قام يصلي بكى، فإذا استنقعت من دموعه في القطعتين أتت إليه أمه فعصرتهما، فإذا رأى دموعه تسيل على ذراعي أمه قال: اللهم هذه دموعي وهذه أمي، وأنا عبدك وأنت أرحم الراحمين، فقال له زكريا يوما: أنا سألت ربي أن يهبك لي لتقر عيناي، فقال يحيى: يا أبت إن جبريل - عليه السلام - أخبرني أن بين الجنة والنار مغارة لا يقطعها إلا كل بكاء، فقال زكريا - عليه السلام - يا بني فابك) .

روى أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي وابن عساكر عن معمر بن راشد قال: بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، قال: ما للعب خلقت، فهو قوله: وآتيناه الحكم صبيا وروى عبد الرازق وعبد بن حميد من طريق معمر عن قتادة قال: جاء الغلمان إلى يحيى بن زكريا فقالوا: اخرج بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقت، قال: فأنزل الله وآتيناه الحكم صبيا وروى الحاكم في التاريخ من طريق نبتل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس رفعه قال الغلمان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال يحيى ما للعب خلقنا، اذهبوا نصلي، وروى إسحاق بن بشر في "المبتدأ" وابن عساكر عن ابن عباس قال: مر يحيى بن زكريا على صبية أتراب له يلعبون على شاطئ نهر بطين وبماء فقالوا: يا يحيى، تعال حتى نلعب، فقال: سبحان الله أوللعب خلقنا؟ وروى ابن أبي حاتم من طريق عبد الرحمن بن القاسم قال: قال مالك: بلغني أنه لم يكن ليحيى عيشة إلا عشب الأرض وإن كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان خده القار لأذابه، ولقد كان الدمع اتخذ في وجهه مجرى. وروى ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني قال: كان يحيى بن زكريا يأكل العشب، وإن كان ليبكي من خشية الله تعالى حتى لو كان القار على عينيه لحرقه ولقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه (وقال المسيح - عليه السلام -: معاشر الحواريين، خشية الله وحب الفردوس يورثان الصبر على المشقة ويباعدان عن الدنيا) قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا مالك بن دينار قال: قال عيسى - عليه السلام - خشية الله وحب الفردوس يباعدان من زهرة الدنيا ويورثان الصبر على المشقة، حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا حاجب بن أبي بكر، حدثنا حماد بن الحسن، حدثنا سيار، حدثنا جعفر، حدثنا مالك قال: قال عيسى - عليه السلام - (بحق أقول لكم: إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب في طلب الفردوس قليل) ، ولفظ الحلية: لقليل في طلب الفردوس، وأخرجه ابن عساكر في ترجمة مالك بلفظ: أكل الشعير مع الرماد والنوم على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس، (وكان الخليل - صلوات الله وسلامه عليه - إذا ذكر خطيئته يغشى عليه، ويسمع اضطراب قلبه ميلا في ميل، فيأتيه جبريل) - عليه السلام - (فيقول له: ربك يقرئك السلام ويقول: هل رأيت خليلا يخاف خليله؟ فيقول: يا جبريل، إني إذا ذكرت خطيئتي نسيت خلتي) ، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين (فهذه [ ص: 250 ] أحوال الأنبياء - عليهم السلام - فدونك والتأمل فيها فإنهم أعرف خلق الله بالله وصفاته) وقس نفسك وتأمل في القصور عن لحوق درجاتهم (صلوات الله) وسلامه (عليهم أجمعين وعلى عبد مصطفى، وعلى عباد الله المقربين وحسبنا الله ونعم الوكيل) .




الخدمات العلمية