الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان معنى سوء الخاتمة

فإن قلت : إن أكثر هؤلاء يرجع خوفهم إلى سوء الخاتمة فما معنى سوء الخاتمة فاعلم أن سوء الخاتمة على رتبتين .

إحداهما أعظم من الأخرى ، فأما الرتبة العظيمة الهائلة : فأن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله إما الشك وإما الجحود ، فتقبض الروح على حال غلبة الجحود أو الشك فيكون ما غلب على القلب من عقدة الجحود حجابا بينه وبين الله تعالى أبدا ، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد : والثانية وهي دونها أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها فيتمثل ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسع لغيره فيتفق قبض روحه في تلك الحال فيكون استغراق قلبه به منكسا رأسه إلى الدنيا وصارفا وجهه إليها .

ومهما انصرف الوجه عن الله تعالى حصل الحجاب .

ومهما حصل الحجاب نزل العذاب إذ نار الله الموقدة لا تأخذ إلا المحجوبين عنه ، فأما المؤمن السليم قلبه من حب الدنيا المصروف همه إلى الله تعالى فتقول له النار جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا فالأمر مخطر ؛ لأن المرء يموت على ما عاش عليه ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب بعد الموت تضاد الصفة الغالبة عليه ، إذ لا تصرف في القلوب إلا بأعمال الجوارح ، وقد بطلت الجوارح بالموت فبطلت الأعمال فلا مطمع في عمل ولا مطمع في رجوع إلى الدنيا ليتدارك ، وعند ذلك تعظم الحسرة إلا أن أصل الإيمان وحب الله تعالى إذا كان قد رسخ في القلب مدة طويلة وتأكد ذلك بالأعمال الصالحة فإنه يمحو عن القلب هذه الحالة التي عرضت له عند الموت ، فإن كان إيمانه في القوة إلى حد مثقال أخرجه من النار في زمان أقرب وإن كان أقل من ذلك طال مكثه في النار ولو لم يكن إلا مثقال حبة فلا بد وأن يخرجه من النار ولو بعد ، آلاف سنين .

فإن قلت : فما ذكرته يقتضي أن تسرع النار إليه عقيب موته فما باله يؤخر إلى يوم القيامة ويمهل طول هذه المدة ؟ فاعلم أن كل من أنكر عذاب القبر فهو مبتدع محجوب عن نور الله تعالى وعن نور القرآن ونور الإيمان بل الصحيح عند ذوي الأبصار ما صحت به الأخبار وهو أن القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة .

وأنه قد يفتح إلى قبر المعذب سبعون بابا من الجحيم .

كما وردت به الأخبار فلا تفارقه روحه إلا وقد نزل به البلاء إن كان قد شقي بسوء الخاتمة .

وإنما تختلف أصناف العذاب باختلاف الأوقات فيكون سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر .

والتعذيب بعده .

ثم المناقشة في الحساب

والافتضاح على ملأ من الأشهاد في القيامة .

التالي السابق


بيان معنى سوء الخاتمة

(فإن قلت: إن أكثر هؤلاء) أي: الصالحين (يرجع خوفهم إلى سوء الخاتمة فما معنى سوء الخاتمة فاعلم) هداك الله تعالى (أن سوء الخاتمة على رتبتين إحداهما أعظم من الأخرى، فأما الرتبة العظيمة الهائلة: فأن يغلب على القلب عند سكرات الموت) وشدائده (وظهور أهواله إما الشك وإما الجحود، فتقبض الروح على حالة غلبة الجحود أو الشك فيكون ما غلب على القلب من عقدة الجحود حجابا بينه وبين الله تعالى أبدا، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد) الملازم .

(والرتبة الثانية: وهي دونها) أي: دون الأولى (أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها فيمثل ذلك في قلبه ويستغرقه) أي: يغمره (حتى لا يبقى في هذه الحالة متسع لغيره فيتفق قبض روحه في تلك الحالة فيكون استغراق قلبه به منكسا رأسه إلى الدنيا وصارفا وجهه إليها، ومهما انصرف الوجه عن الله تعالى حصل الحجاب ومهما حصل الحجاب) عن الله تعالى (نزل العذاب) لا محالة (إذ نار الله الموقدة) المشار إليها في الآية (لا تأخذ إلا المحجوبين عنه، فأما المؤمن السليم قلبه عن حب الدنيا المصروف إلى الله تعالى) المشار إليه في قوله تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم أي: سليم عن حب الدنيا (تقول له النار جز يا مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي) روي ذلك من حديث يعلى بن منية: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي. رواه الطبراني وأبو نعيم والبيهقي والخطيب وضعفه البيهقي ورواه الحكيم في النوادر بلفظ: إن النار تقول .

(فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا فإن الأمر مخطر; لأن المرء يموت على ما عاش عليه) كما أنه يبعث على ما مات عليه (ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب بعد الموت تضاد الصفة الغالبة عليه، إذ لا تصرف في القلوب إلا بأعمال الجوارح، وقد بطلت الجوارح بالموت فبطلت الأعمال فلا مطمع في عمل ولا مطمع في رجوع إلى الدنيا ليتدارك، وعند ذلك تعظم الحسرة) حيث لا تنفع (إلا أن أصل الإيمان وحب الله تعالى إذا كان قد رسخ في القلب مدة طويلة وتأكد ذلك بالأعمال الصالحة فإنه يمحق عن القلب هذه الحالة التي عرضت له عند الموت، فإن كان إيمانه في القوة إلى حبة مثقال أخرجه من النار في زمان أقرب) كما في الخبر: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان (وإن كان أقل من ذلك طال مكثه في النار ولو لم يكن إلا مثقال حبة فلا بد وأن يخرجه من النار ولو بعد حين، ولو بعد آلاف سنين) فقد روي من مرسل الحسن: يخرج من النار رجل بعد ألف عام، وقد تقدم ذلك .

(فإن قلت: فما ذكرته يقتضي أن تسرع النار إليه عقيب موته فما باله يؤخر إلى يوم القيامة ويمهل طول هذه المدة؟ فاعلم أن من أنكر عذاب القبر فهو مبتدع محجوب عن نور الله تعالى وعن نور القرآن) وعن (نور الإيمان بل الصحيح عند ذوي الأبصار ما صحت به الأخبار وهو أن [ ص: 235 ] القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة) رواه الترمذي من حديث أبي سعيد، وقال: غريب، وتقدم في الأذكار (وأنه قد يفتح إلى قبر المعذب سبعون بابا من الجحيم كما وردت به الأخبار) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا (فلا تفارقه روحه إلا وقد نزل البلاء به إن كان قد شقي بسوء الخاتمة، وإنما تختلف أصناف العذاب باختلاف الأوقات فيكون سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر) تقدم في قواعد العقائد (والتعذيب بعده) تقدم فيه أيضا (ثم المناقشة في الحساب) تقدم فيه أيضا (والإفضاح على ملأ من الأشهاد في القيامة) قال العراقي: روى أحمد والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد جيد: من انتفى من ولده ليفضحه في الدنيا فضحه الله على رءوس الأشهاد، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: أما الكافر والمنافق فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، وللطبراني والعقيلي في الضعفاء من حديث الفضل بن عباس: فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وهو حديث طويل منكر. اهـ .

قلت: حديث ابن عمر الذي عند أحمد والطبراني قد رواه كذلك أبو نعيم في الحلية وعند الكل بعد قوله: الأشهاد، قصاص بقصاص، وأما الحديث الأخير فقد رواه أيضا القضاعي كلهم من رواية القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس عن أخيه الفضل به مرفوعا .




الخدمات العلمية