الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والثاني تصديق المنجمين في تفصيل ما يخبرون عنه من الآثار التي لا يشترك كافة الخلق في دركها لأنهم يقولون ذلك عن جهل ، فإن علم أحكام النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء عليهم السلام ، ثم اندرس ذلك العلم فلم يبق إلا ما هو مختلط لا يتميز فيه الصواب عن الخطأ ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابا لآثار تحصل بخلق الله تعالى في الأرض ، وفي النبات وفي الحيوان ، ليس قادحا في الدين ، بل هو حق ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل قادح في الدين ولذلك إذا كان معك ثوب غسلته ، وتريد تجفيفه فقال لك غيرك : أخرج الثوب وابسطه فإن الشمس قد طلعت ، وحمي النهار ، والهواء ، لا يلزمك تكذيبه ، ولا يلزمك الإنكار عليه بحوالته حمي الهواء على طلوع الشمس ، وإذا سألت عن تغيير وجه الإنسان : فقال : قرعتني الشمس : في الطريق فاسود وجهي لم يلزمك تكذيبه بذلك . وقس بهذا سائر الآثار إلا أن الآثار بعضها معلوم ، وبعضها مجهول ، فالمجهول لا يجوز دعوى العلم فيه ، والمعلوم بعضه معلوم للناس كافة كحصول الضياء والحرارة بطلوع الشمس ، وبعضه لبعض الناس كحصول الزكام بشروق القمر فإذا الكواكب ما خلقت عبثا بل فيها حكم كثيرة لا تحصى ؛ ولهذا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء وقرأ قوله تعالى : ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ثم قال صلى الله عليه وسلم ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته .

ومعناه أن يقرأ ويترك التأمل ويقتصر من فهم ملكوت السموات على أن يعرف لون السماء ، وضوء الكواكب ، وذلك مما تعرفه البهائم أيضا ، فمن قنع منه بمعرفة ذلك فهو الذي مسح بها سبلته فلله تعالى في ملكوت السموات ، والآفاق ، والأنفس ، والحيوانات ، عجائب يطلب معرفتها المحبون لله تعالى ، فإن من أحب عالما فلا يزال مشغولا بطلب تصانيفه ، ليزداد بمزيد الوقوف على عجائب علمه حبا له ، فكذلك الأمر في عجائب صنع الله تعالى ، فإن العالم كله من تصنيفه بل تصنيف المصنفين من تصنيفه الذي صنفه بواسطة قلوب عباده فإن تعجبت من تصنيف فلا تتعجب من المصنف ، بل من الذي سخر المصنف لتصنيفه بما أنعم عليه من هدايته وتسديده وتعريفه كما إذا رأيت لعب المشعوذ ترقص وتتحرك حركات موزونة متناسبة ، فلا تعجب من اللعب فإنها خرق محركة لا متحركة ولكن تعجب من حذق المشعوذ المحرك لها بروابط دقيقة خفية عن الأبصار فإذا المقصود أن غذاء النبات لا يتم إلا بالماء والهواء والشمس والقمر والكواكب ، ولا يتم ذلك إلا بالأفلاك التي هي مركوزة فيها ، ولا تتم الأفلاك إلا بحركاتها ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها وكذلك يتمادى ذلك إلى أسباب بعيدة تركنا ذكرها تنبيها بما ذكرناه على ما أهملناه : ولنقتصر على هذا من ذكر أسباب غذاء النبات

.

التالي السابق


(والثاني تصديق المنجمين في تفصيل ما يخبرون عنه من الآثار التي لا يشترك كافة الخلق في دركها لأنهم يقولون ذلك عن جهل، فإن علم أحكام النجوم كانت معجزة لبعض الأنبياء) قيل: هو إدريس، وقيل: هو دانيال (عليهم السلام، ثم اندرس ذلك العلم) وانمحى بانقطاع نبوته، وقد ورد مثل ذلك في الخط روى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام إلى أن قال: ومنا رجال يخطون، فقال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك. (فلم يبق إلا ما هو مختلط لا يتميز فيه الصواب عن الخطأ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابا لآثار تحصل بخلق الله تعالى في الأرض، وفي النبات، والحيوان، ليس بقادح في الدين، بل هو الحق) عند أهل الحق (ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل قادح في الدين) ؛ إذ قد سد بابه بموت ذلك النبي الذي كان ذلك علما على [ ص: 119 ] نبوته. (وكذلك إذا كان معك ثوب غسلته، وتريد تجفيفه فقال لك غيرك: أخرج الثوب وابسطه فإن الشمس قد طلعت، وحمي النهار، والهواء، لا يلزمك تكذيبه، ولا يلزمك الإنكار عليه بحوالته حمو الهواء على طلوع الشمس، وإذا سألت عن تغير وجه الإنسان) أي: عن انقلاب لونه (فقال: قرعتني الشمس) أي: ضربتني بحرها وأنا سالك (في الطريق) فأثرت (فاسود وجهي) وفيه يقول الشاعر:


جاء الحبيب الذي أهوى من السفر والشمس قد أثرت في وجهه أثرا

(لم يلزمك تكذيبه. وقس بهذا سائر الآثار إلا أن الآثار بعضها معلوم، وبعضها مجهول، فالمجهول لا يجوز دعوى العلم فيه، ولا القول بحدس وتخمين، والمعلوم بعضه معلوم للناس كافة كحصول الضياء والحرارة بطلوع الشمس، وبعضه) معلوم (لبعض الناس كحصول الزكام بشروق القمر) عند تعرية الرأس (فإن الكواكب ما خلقت عبثا بل فيها حكم كثيرة لا تحصى؛ ولهذا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء وقرأ قوله تعالى: ربنا ما خلقت هذا باطلا الآية، ثم قال: ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته) محركة، وهو ما أسبل من اللحية (ومعناه أن يقرأ ويترك التأمل) فيها (ويقتصر من فهم ملكوت السموات على أن يعرف لون السماء، وضوء الكواكب، وذلك مما تعرفه البهائم أيضا، فمن قنع بمعرفة ذلك فهو الذي مسح بها سبلته) . قال العراقي: رواه الثعلبي من حديث ابن عباس بلفظ: ولم يتفكر فيها، وفيه أبو خباب يحيى بن أبي سية ضعيف اهـ. قلت: ورواه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن أبي الدنيا في التفكر، وابن حبان في صحيحه، وابن عساكر من رواية عطاء، قال: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث بطوله، وقد تقدم ذكره قريبا في بيان فضيلة الشكر، وفي آخره: ولم لا أفعل وقد أنزل الله علي هذه الليلة إن في خلق السماوات والأرض الآية. ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وقد أشار العراقي هناك أنه أخرجه أبو الشيخ في كتاب أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن طريقه ابن الجوزي. وروى الديلمي من حديث عائشة: ويل لمن قرأ هذه الآية ثم لم يتفكر فيها، يعني "إن في خلق السماوات والأرض" الآية. وروى ابن أبي الدنيا في التفكر عن سفيان رفعه: من قرأ آخر سورة آل عمران فلم يتفكر فيها ويله! فعد بأصابعه عشرا. قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن .

(فلله تعالى في ملكوت السماء، والآفاق، والأنفس، والحيوانات، عجائب يطلب معرفتها المحبوب لله تعالى، فإن من أحب عالما فلا يزال مشغولا بطلب تصانيفه، ليزداد بمزيد الوقوف على عجائب علمه) وغرائبه (حبا له، فكذلك الأمر في عجائب صنع الله تعالى، فإن العالم كله من تصنيفه) وتركيبه على أبدع نظام (بل تصنيف المصنفين) من عباده (من تصنيفه الذي صنفه بواسطة قلوب عباده) فإنه الذي ألهم ذلك، وأرشده إليه (فإن تعجبت من تصنيف فلا تتعجب من المصنف، بل من الذي سخر المصنف لتأليفه بما أنعم عليه من هدايته وتسديده) وتوفيقه (وتعريفه) إياه، ولولا ذلك لما تم له التصنيف (كما إذا رأيت لعب) بضم ففتح جمع لعبة (المشعوذ) وهي التي تعمل من خرق على هيئة بني آدم (ترقص وتتحرك) وتقوم وتقعد (حركات موزونة متناسبة، فلا تعجب من اللعب فإنها خرق محركة) يحركها غيرها (لا متحركة) بأنفسها (ولكن تعجب من حذق المشعوذ المحرك لها بروابط) شعرية (دقيقة خفية عن الأبصار. فإذا المقصود أن غذاء النبات لا يتم إلا بالماء والهواء والشمس والقمر والكواكب، ولا يتم ذلك إلا بالأفلاك التي هي مركوزة فيها، ولا تتم الأفلاك إلا بحركاتها [ ص: 120 ] ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها) بأمر الله سبحانه (وكذلك يتمادى ذلك إلى أسباب) أخر (بعيدة) يتوقف عليها (تركنا ذكرها تنبيها بما ذكرناه على ما أهملناه) أي: تركناه (ولنقتصر على هذا) القدر (من ذكر أسباب غذاء النبات) وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية