الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان وجه الأنموذج في كثرة نعم الله تعالى وتسلسلها وخروجها عن الحصر والإحصاء .

اعلم أنا جمعنا النعم في ستة عشر ضربا وجعلنا صحة البدن نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخرة فهذه النعمة الواحدة لو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة : لم نقدر عليها ، ولكن الأكل أحد أسباب الصحة فلنذكر نبذة من جملة الأسباب التي بها تتم نعمة الأكل فلا يخفى أن الأكل فعل وكل فعل من هذا النوع فهو حركة وكل حركة لا بد لها من جسم متحرك هو : آلتها ولا بد لها : من قدرة على الحركة ولا بد من إرادة للحركة ولا بد ، من علم بالمراد وإدراك له ولا بد للأكل من مأكول ولا بد للمأكول من أصل منه يحصل ولا بد له من صانع يصلحه فلنذكر أسباب الإدراك ثم أسباب الإرادات ثم أسباب القدرة ، ثم أسباب المأكول على سبيل التلويح لا على سبيل الاستقصاء .

الطرف الأول في نعم الله تعالى في خلق أسباب الإدراك .

اعلم أن الله تعالى خلق النبات وهو أكمل وجودا من الحجر ، والمدر ، والحديد ، والنحاس ، وسائر الجواهر التي لا تنمى ولا تغذى ، فإن النبات خلق فيه قوة بها يجتذب الغذاء إلى نفسه من جهة أصله وعروقه التي في الأرض ، وهي له آلات فبها يجتذب الغذاء ، وهي العروق الدقيقة التي تراها في كل ورقة ثم تغلظ أصولها ثم تتشعب ، ولا تزال تستدق وتتشعب : إلى عروق شعرية : تنبسط في أجزاء الورقة حتى تغيب عن البصر إلا أن النبات مع هذا الكمال ناقص فإنه إذا أعوزه : غذاء يساق إليه ويماس أصله جف ويبس ولم يمكنه طلب الغذاء من وضع آخر فإن الطلب إنما يكون بمعرفة المطلوب وبالانتقال إليه والنبات عاجز عن ذلك فمن نعمة الله تعالى عليك أن خلق لك آلات الإحساس ، وآلة الحركة في طلب الغذاء ، فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في خلق الحواس الخمس التي هي آلة الإدراك .

التالي السابق


(بيان وجه الأنموذج في كثرة نعم الله تعالى وتسلسلها وخروجها عن حد الحصر والإحصاء)

(اعلم) هداك الله تعالى (أنا جمعنا) فيما تقدم (النعم) الموهوبة والمكتسبة (في ستة عشر ضربا) من ضرب أربعة في أربعة، فالأربعة أصول، ولكل أصل أربعة، (وجعلنا صحة البدن) وسلامته من الأسقام (نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخرة) لأنها من جملة الفضائل البدنية المكملة للفضائل النفسية. (فهذه النعمة الواحدة لو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة) أي: نطلب نهايتها (لم نقدر عليها، ولكن الأكل أحد أسباب الصحة فلنذكر نبذة من جملة الأسباب التي بها تتم نعمة الأكل [ ص: 100 ] ولا يخفى أن الأكل فعل) لأنه هيئة حاصلة للآكل بسبب كونه آكلا (وكل فعل من هذا النوع فهو حركة) لأنه خروج من الفعل إلى القوة بالتدريج (وكل حركة فلابد لها من جسم متحرك) وتكون تلك الحركة عارضة لذاته والجسم ما له طول وعرض وعمق (هو) أي: ذلك الجسم (آلتها ولابد لها) أي: لتلك الحركة (من قدرة على الحركة ولابد لها من إرادة للحركة، ولابد) مع ذلك (من علم بالمراد) وإدراك له، ولابد للأكل من مأكول، ولابد للمأكول من أصل منه يحصل وجوده (ولابد له من صانع يصلحه) ويهيئه للأكل (فلنذكر أسباب الإدراك أولا ثم أسباب الإرادات ثم أسباب القدرة، ثم أسباب المأكول على سبيل التلويح) والإشارة (لا على سبيل الاستقصاء) والإحاطة .

(الطرف الأول) (في) بيان (نعم الله تعالى في خلق أسباب الإدراك)

(اعلم أن الله تعالى خلق النبات) وهو ما يخرج من الأرض من الناميات، سواء كان له ساق كالشجر، أم لا كالنجم، لكن خص عرفا بما لا ساق له (وهو أكمل وجودا من الحجر، والمدر، والحديد، والنحاس، وسائر الجواهر التي تنمو) نموا (ولا تغذي، فإن النبات خلق فيه قوة بها يجتذب الغذاء إلى نفسه من جهة أصله وعروقه التي) هي (في) باطن (الأرض، وهي له آلات بها يجتذب الغذاء، وهي العروق الدقيقة التي تراها في كل ورقة تغلظ أصولها) وهي منابت الأوراق (ثم تتشعب وتتفرق، ولا تزال تستدق وتتشعب) أي: تنقسم (إلى عروق) دقيقة (شعرية) أي: مثل الشعر في الدقة (تنبسط في أجزاء الورقة حتى تغيب عن البصر إلا أن النبات مع هذا الكمال) بالإضافة إلى الجواهر المذكورة (ناقص فإنه لو أعوزه) أي: أحوجه (غذاء يساق إليه ويماس أصله جف ويبس) وذهبت نضارته (ولم يمكنه طلب الغذاء من موضع آخر فإن الطلب إنما يكون لمعرفة المطلوب وبالانتقال إليه والنبات عاجز عن ذلك) أي: لا قدرة له على الانتقال من موضعه .

(فمن نعمة الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس، وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر إلى ترتيب حكمة الله) تعالى (في خلق الحواس الخمس) الظاهرة (التي هي آلة الإدراك) وتحقيق المقام أن الأفعال الصادرة إنما تصدر عن القوى لا عن الجسم فإن الجسم لا يفعل من حيث الجسمية، بل بالقوة التي فيه أو بقوة متعلقة به، فالقوة مبدأ الفعل، وكل فاعل إما قوة أو ذو قوة تفعل بقوته، فالفاعل هو القوة، والجسم آلة في الأفعال، فباستعماله على الوجه الأليق تستكمل إذا عرفت هذا .




الخدمات العلمية