الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فمثل هذا التوحيد الاعتقادي هل يصلح أن يكون عمادا للتوكل وأصلا فيه ؟ فأقول : نعم ، فإن الاعتقاد إذا قوي عمل عمل الكشف في إثارة الأحوال إلا أنه في الغالب يضعف ويتسارع إليه الاضطراب والتزلزل غالبا ولذلك يحتاج صاحبه إلى متكلم يحرسه بكلامه أو إلى أن يتعلم هو الكلام ليحرس به العقيدة التي تلقنها من أستاذه أو من أبويه أو من أهل بلده .

وأما الذي شاهد الطريق وسلكه بنفسه فلا يخاف عليه شيء من ذلك بل لو كشف الغطاء لما ازداد يقينا وإن كان يزداد وضوحا كما أن الذي يرى إنسانا في وقت الإسفار لا يزداد يقينا عند طلوع الشمس بأنه إنسان ولكن يزداد وضوحا في تفصيل خلقته وما مثال المكاشفين والمعتقدين إلا كسحرة فرعون مع أصحاب السامري فإن سحرة فرعون لما كانوا مطلعين على منتهى تأثير السحر لطول مشاهدتهم وتجربتهم رأوا من موسى عليه السلام تجاوز حدود السحر وانكشف لهم حقيقة الأمر فلم يكترثوا بقول فرعون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف بل قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فإن البيان والكشف يمنع التغيير وأما أصحاب السامري لما كان إيمانهم عن النظر إلى ظاهر الثعبان فلما نظروا إلى عجل السامري وسمعوا خواره تغيروا وسمعوا قوله : هذا إلهكم وإله موسى ونسوا أنه لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا فكل من آمن بالنظر إلى ثعبان يكفر لا محالة إذا نظر إلى عجل ؛ لأن كليهما من عالم الشهادة والاختلاف والتضاد في عالم الشهادة كثير .

وأما عالم الملكوت فهو من عند الله تعالى فلذلك لا نجد فيه اختلافا وتضادا أصلا .

فإن قلت : ما ذكرته من التوحيد ظاهر مهما ثبت أن الوسائط والأسباب مسخرات وكل ذلك ظاهر إلا في حركات الإنسان فإنه يتحرك إن شاء ويسكن إن شاء فكيف يكون مسخرا فاعلم أنه لو كان مع هذا يشاء إن أراد أن يشاء ولا يشاء إن لم يرد أن يشاء لكان هذا مزلة القدم وموقع الغلط ، ولكن علم أنه يفعل ما يشاء إذا شاء إن يشأ أم لم يشأ فليست المشيئة إليه إذ لو كانت إليه لافتقرت إلى مشيئة أخرى وتسلسل إلى غير نهاية وإذا لم تكن إليه المشيئة فمهما وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ولم يكن لها سبيل إلا المخالفة ، فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة ، والقدرة متحركة ضرورة عند انجزام المشيئة فالمشيئة ، تحدث ضرورة في القلب فهذه ضرورات ، ترتب بعضها على بعض .

وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها ، ولا وجود الحركة بعد بعث المشيئة للقدرة فهو مضطر في الجميع .

فإن قلت : فهذا جبر محض والجبر يناقض الاختيار وأنت لا تنكر الاختيار فكيف يكون مجبورا مختارا ؟ فأقول : لو انكشف الغطاء لعرفت أنه في عين الاختيار مجبور فهو إذا مجبور على الاختيار فكيف يفهم هذا من لا يفهم الاختيار فلنشرح الاختيار بلسان المتكلمين شرحا وجيزا يليق بما ذكر متطفلا وتابعا فإن هذا الكتاب لم نقصد به إلا علم المعاملة ولكني أقول : لفظ الفعل في الإنسان يطلق على ثلاثة أوجه إذ : يقال الإنسان يكتب بالأصابع ويتنفس بالرئة والحنجرة ويخرق الماء إذا وقف عليه بجسمه فينسب إليه الخرق في الماء والتنفس والكتابة وهذه الثلاثة في حقيقة الاضطرار والجبر واحدة ولكنها تختلف وراء ذلك في أمور فأعرب لك عنها بثلاث عبارات فنسمي : خرقه للماء عند وقوعه على وجهه فعلا طبيعيا ونسمي تنفسه فعلا إراديا ونسمي كتابته فعلا اختياريا والجبر ظاهر في الفعل الطبيعي ؛ لأنه مهما وقف على وجه الماء أو تخطى من السطح للهواء انخرق الهواء لا محالة وقد يكون الخرق بعد التخطي ضروريا والتنفس في معناه فإن نسبة حركة الحنجرة إلى إرادة التنفس كنسبة انخراق الماء إلى ثقل البدن ، فمهما كان الثقل موجودا وجد الانخراق بعده وليس الثقل إليه وكذلك ، الإرادة ليست إليه ولذلك لو قصد عين الإنسان بإبرة طبق الأجفان اضطرارا ولو أراد أن يتركها مفتوحة لم يقدر مع أن تغميض الأجفان اضطرارا فعل إرادي ولكنه إذا تمثل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك حدثت الإرادة بالتغميض ضرورة وحدثت الحركة بها ، ولو أراد أن يترك ذلك لم يقدر عليه مع أنه فعل بالقدرة والإرادة فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضروريا .

وأما الثالث : وهو الاختيار فهو مظنة الالتباس كالكتابة والنطق وهو الذي يقال فيه : إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، وتارة لا يشاء ، فيظن من هذا أن الأمر إليه وهذا للجهل بمعنى الاختيار فلنكشف عنه وبيانه أن الإرادة تبع للعلم الذي يحكم بأن الشيء موافق لك ، والأشياء تنقسم إلى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة بأنه يوافقك من غير تحير وتردد ، وإلى ما قد يتردد العقل فيه ، فالذي نقطع به من غير تردد أن من يقصد عينك مثلا بإبرة أو بدنك بسيف فلا يكون في علمك تردد في أن دفع ذلك خير لك وموافق فلا جرم تنبعث الإرادة بالعلم .

والقدرة بالإرادة وتحصل حركة الأجفان بالدفع وحركة اليد بدفع السيف ولكن من غير روية وفكرة ويكون ذلك بالإرادة ، ومن الأشياء ما يتوقف التمييز والعقل فيه فلا يدري أنه موافق أم لا فيحتاج إلى روية فكر حتى يتميز أن الخير في الفعل أو الترك فإذا حصل بالفكر والروية العلم بأن أحدهما خير التحق ذلك بالذي يقطع به من غير روية فكر فانبعثت الإرادة ههنا كما تنبعث لدفع السيف والسنان ، فإذا انبعثت لفعل ما ظهر للعقل أنه خير سميت هذه الإرادة اختيارا مشتقا من الخير أي : هو انبعاث إلى ما ظهر للعقل أنه خير وهو عين تلك الإرادة ولم ينتظر في انبعاثها إلى ما انتظرت تلك الإرادة وهو ظهور خيرية الفعل في حقه إلا أن الخيرية في دفع السيف ظهرت من غير روية بل على البديهة وهذا افتقر إلى الروية فالاختيار عبارة عن إرادة خاصة وهي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إدراكه توقف وعن هذا قيل : إن العقل يحتاج إليه للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين ، ولا يتصور أن تنبعث الإرادة إلا بحكم الحس والتخيل أو بحكم جزم من العقل ولذلك لو أراد الإنسان أن يحز رقبة نفسه مثلا لم يمكنه لا لعدم القدرة في اليد ولا لعدم السكين ولكن لفقد الإرادة الداعية المشخصة للقدرة ، وإنما فقدت الإرادة لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحس بكون الفعل موافقا وقتله نفسه ليس موافقا له فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في عقوبة مؤلمة لا تطاق فإن العقل هنا يتوقف في الحكم ويتردد لأن تردده ؛ بين شر الشرين فإن ترجح له بعد الروية أن ترك القتل أقل شرا لم يمكنه قتل نفسه وإن حكم بأن القتل أقل شرا وكان حكمه جزما لا ميل فيه ولا صارف منه انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه كالذي يتبع بالسيف للقتل فإنه يرمي بنفسه من السطح مثلا وإن مهلكا ولا يبالي ولا يمكنه أن لا يرمي نفسه فإن كان يتبع بضرب خفيف فإن انتهى إلى طرف السطح حكم العقل بأن الضرب أهون من الرمي فوقفت أعضاؤه فلا يمكنه أن يرمي نفسه ولا تنبعث له داعية البتة ؛ لأن داعية الإرادة مسخرة بحكم العقل ، والحس والقدرة مسخرة للداعية ، والحركة مسخرة للقدرة ، والكل مقدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور فأما أن يكون منه فكلا ولا فإذا . معنى كونه مجبورا أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه ومعنى كونه مختارا أنه محل لإرادة حدثت فيه جبرا بعد حكم العقل بكون الفعل خيرا محضا موافقا ، وحدث الحكم أيضا جبرا فإذا هو مجبور على الاختيار ، ففعل النار في الإحراق مثلا جبر محض وفعل الله تعالى اختيارا محض ، وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار ، فطلب أهل الحق لهذا عبارة ثالثة لأنه لما كان فنا ثالثا وائتموا فيه بكتاب الله تعالى فسموه كسبا وليس مناقضا للجبر ولا للاختيار بل هو جامع بينهما عند من فهمه .

التالي السابق


(فإن قلت: فمثل هذا التوحيد الاعتقادي هل يصلح أن يكون عماد التوكل واصلا فيه؟ فأقول: نعم، فإن الاعتقاد إذا قوي) في القلب ورسخ (عمل عمل الكشف في إثارة الأحوال) من مكامنها (إلا أنه في الغالب يضعف ويتسارع إليه الاضطراب والتزلزل غالبا) وقل معتقد ثبت في اعتقاده (ولذلك يحتاج صاحبه إلى متكلم يحرسه بكلامه) بأن يثبته بالأدلة القوية وينفي عنه ما يرد عليه من الشكوك (أو إلى أن يتعلم هو الكلام ليحرس به العقيدة التي تلقفها من أستاذه أو من أهل بلده وأما الذي شاهد الطريق وسلكه بنفسه فلا يخاف عليه شيء من ذلك) أي: من الاضطراب والتزلزل وهو الذي حماه الله بنور العقل المجرد عن الأمور العادية وشرح صدره (بل لو كشف الغطاء) عن حقائق الأمور (لما ازداد يقينا) فيها عما كان قد ظهر له وهذا القول قد نسب إلى علي - رضي الله عنه - : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، وهذا المقام لا يخص به إلا الآحاد من هذه الأمة (ولكن يزداد وضوحا) وترقيا وهذا (كما أن الذي يرى إنسانا في وقت الأسفار) قبل طلوع الشمس (لا يزداد يقينا عند طلوع الشمس بأنه إنسان ولكن يزداد وضوحا في تفصيل خلقته وما مثال المكاشفين) المشاهدين الذين لهم سر الطريق (والمعتقدين إلا كسحرة فرعون) الذين كان جمعهم لمقاومة موسى - عليه السلام - وكان أكثرهم من صعيد مصر وكانوا زهاء سبعين ألفا (مع أصحاب السامري) منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة، والسامري هذا اسمه موسى بن ظفر كان علجا منافقا من كرمان وقيل: من باجرمي، قال المسعودي: السامرة فرقة من اليهود تخالفه في أكثر الأحكام وينكرون نبوة داود - عليه السلام - وما بعده من الأنبياء، وقالوا: لا نبي بعد موسى وجعلوا رؤساءهم من ولد هارون بن عمران ويقولون لا مساس، ويزعمون أن نابلس هي بيت المقدس وهم صنفان الكوشان والدوشان .

(فإن سحرة فرعون لما كانوا مطلعين على منتهى تأثير السحر لطول مشاهدتهم و) كثرة (تجربتهم فرأوا من موسى - عليه السلام - ما جاوز حدود السحر وانكشف لهم حقيقة الأمر) وتحققوا أنه ليس بسحر وإنما هو من آيات الله ومعجزة من معجزاته فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله توبة عما صنعوا وإعتابا وتعظيما لما رأوا (فلم يكترثوا بقول فرعون) لأنهم لما قالوا: "آمنا برب هارون وموسى" قال فرعون: لا "آمنتم به قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) ولأصلبنكم في جذوع النخل (بل قالوا لن نؤثرك) أي: لن نختارك (على ما جاءنا) موسى به (من البينات) المعجزات الواضحات (والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض) أي: ما أنت قاضيه أو صانعه أو حاكم به (فإن البيان والكشف يمنع التغيير) كما هو شأن عالم الملكوت .

(وأما أصحاب السامري) وكانوا زهاء خمسمائة ألف (لما كان إيمانهم عن النظر إلى ظاهر الثعبان) وهو العصا التي كانت في يمينه أمر بإلقائها فإذا هي ثعبان مبين فتلقفت ما ألقوا من الحبال والعصي وقد دهنوها بالزئبق فلما أحست بحر الشمس تحركت (فلما نظروا إلى عجل السامري) الذي كان اتخذ من حلي القوم وكانوا استعاروا أحمالا منها من القبط لعيدهم ثم لم يردوها مخافة أن يعلم بهم وقيل: هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوه وأوهم لهم السامري أن موسى إنما أخلف معكم ميعاده لما معكم حلي القوم وهو حرام عليكم فالرأي أن تحفروا حفيرة وتسجروا فيها النار [ ص: 420 ] ونقذف كل ما معنا فيها، ففعلوا، فأخرج لهم عجلا جسدا من تلك الحلي المذابة (وسمعوا خواره) أي: صوته وكان قد قبض قبضته من أثر حافر فرس جبريل - عليه السلام - فنبذها في جوفه فحيي وظهر له صوت (تغيروا وسمعوا قوله: هذا إلهكم وإله موسى) وهو من قول السامري قال: ذلك أول ما رآه فسمعوه واتبعوه (ونسوا أنه) أي: العجل (لا يرجع إليهم قولا) أي: كلاما ولا يرد عليهم جوابا (ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) أي: لا يقدر على إنفاعهم وإضرارهم .

(وكل من آمن بالنظر إلى ثعبان يكفر لا محالة إذا نظر إلى عجل; لأن كليهما عالم الشهادة والاختلاف والتضاد في عالم الشهادة كثير، وأما عالم الملكوت فهو من عند الله تعالى فإن ذلك لا تجد فيه اختلافا كثيرا وتضادا أصلا، فإن قلت: ما ذكرته من التوحيد ظاهر مما ثبت أن الوسائط والأسباب مسخرات وكل ذلك ظاهر) لا مرية فيه (إلا في حركات الإنسان فإنه يتحرك إن شاء ويسكن إن شاء فكيف يكون مسخرا) فإن من شأن المسخرات لا يكون له اختيار أصلا .

(فاعلم أنه لو كان مع هذا يشاء إن أراد أن يشاء ولا يشاء إن لم يرد أن يشاء لكان هذا مزلة القدم وموقع الغلط، ولكن علمت أنه يفعل ما يشاء إذا شاء ويشاء شاء أم لم يشأ فليست المشيئة إليه إذ لو كانت إليه لافتقرت إلى مشيئة أخرى وتسلسل إلى غير نهاية) والتسلسل باطل .

(وإذا لم تكن المشيئة) إليه (فمهما وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ولم يكن لها سبيل إلا المخالفة، فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة، والقدرة متحركة ضرورة عند انجزام المشيئة، والمشيئة تحدث ضرورة في القلب، فهذه ضروريات ترتب بعضها على بعض وليس العبد أن يدفع وجود المشيئة ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها، ولا وجود الحركة بعد بعث المشيئة للقدرة فهو مضطر في الجميع .

فإن قلت: فهذا جبر محض) وهو إسناد فعل العبد إلى الله تعالى من غير أن تثبت للعبد قدرة لا مؤثرة ولا كاسبة وهو منهج جهم بن صفوان وأتباعه .

(والجبر يناقض الاختيار) وهو طلب ما فيه خير (وأنت لا تنكر الاختيار فكيف يكون مجبرا مختارا؟ فأقول: لو انكشف الغطاء لعرفت أنه في عين الاختيار مجبر) لأنه تعالى أجبر الناس على أمور لا انفكاك لهم منها حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية لا على ما يتوهمه الغواة كإكراههم على المرض والموت والبعث، وسخر كلا منهم لحرفة يتعاطاها وطريقة من الأعمال والأخلاق يتحراها، فإما راض بصنعته لا يبغي عنها حولا وإما كاره يكابدها مع كراهته كأنه لا يجد عنها بدلا (فهو إذا مجبر على اختيار) أي: في صورة مخير (فكيف يفهم هذا من لا يفهم الاختيار فلنشرح الاختيار بلسان المتكلمين شرحا وجيزا يليق بما نذكر متطفلا وتابعا فإن هذا الكتاب لم نقصد به إلا) بيان (علم المعاملة) ومباحث علم الكلام إنما تذكر فيه على سبيل التبعية .

(ولكني أقول: لفظ الفعل في الإنسان) الذي هو التأثير من جهة مؤثر أعم من أن يكون بإيجاده أو بغيره وبعلم أو بغيره وبقصد أو بغيره (يطلق على ثلاثة أوجه: إذ يقال الإنسان يكتب بالأصبع ويتنفس بالرئة والحنجرة ويخرق الماء إذا وقف عليه بجسمه فينسب إليه الخرق في الماء والتنفس والكتابة وهذه الثلاثة في حقيقة الاضطرار والجبر واحد) فإنه مضطر مجبر في كل منهما (ولكنها تختلف وراء ذلك في أمور فأعرب لك عنها بثلاثة عبارات: فيسمى خرقه للماء عند وقوعه على وجهه) أي: وجه الماء (فعلا طبيعيا) نسب [ ص: 421 ] إلى طبيعة الإنسان وهو المزاج المركب من الأخلاط (ويسمى تنفسه في الماء فعلا إراديا) منسوبا إلى الإدارة وهي قوة مركبة من شهوة وحاجة وأمل .

(ويسمى كتابته فعلا اختيارا والجبر ظاهر في الفعل الطبيعي; لأنه مهما وقف على وجه الماء أو تخطى من السطح للهواء انخرق) كل من الماء والهواء (لا محالة فيكون الخرق بعد التخطي) والوقوع (ضروريا والتنفس) من الرئة وإن لم يكن مثله فهو (في معناه فإن نسبة حركة الحنجرة إلى إرادة النفس كنسبة انخراق الماء إلى ثقل البدن، فمهما كان الثقل موجودا وجد الانخراق بعده وليس الثقل إليه، فكذلك الإرادة ليست إليه وكذلك لو قصد عين الإنسان بإبرة طبق الأجفان) عليهما (اضطرارا ولو أراد أن يتركها مفتوحة لم يقدر مع أن تغميض الأجفان اضطرارا فعل إرادي ولكنه إذا تمثل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك حدثت الإرادة بالتغميض ضرورة وحدثت الحركة بها، ولو أراد أن يترك ذلك لم يقدر عليه مع أنه فعل بالقدرة والإرادة فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضروريا) فصار حكمه حكمه في ظهور الجبر فيه .

(وأما الثالث: وهو الاختيار فهو مظنة الالتباس كالكتابة والنطق وهو الذي يقال فيه: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وتارة يشاء وتارة لا يشاء، فيظن من هذا) في بادئ الرأي (أن الأمر إليه وهذا للجهل بمعنى الاختيار فلنكشف عنه) بإيضاح (وبيانه أن الإرادة تبع للعلم الذي يحكم بأن الشيء موافق لك، والأشياء تنقسم إلى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة بأنه يوافقك من غير تحير وتردد، وإلى ما قد يتردد العقل فيه، فالذي تقطع به من غير تردد) ولا تحير (أن يقصد عينك مثلا بإبرة أو بدنك بسيف فلا يكون في علمك تردد في أن دفع ذلك خير لك وموافق) لك (فلا جرم تنبعث الإرادة بالعلم و) تنبعث (القدرة بالإرادة وتحصل حركة الأجفان بالدفع وحركة اليد بدفع السيف ولكن من غير روية وفكرة ويكون ذلك بالإرادة، ومن الأشياء ما يتوقف التمييز والعقل فيه فلا يدري أنه موافق أم لا فيحتاج إلى روية وفكر حتى يتميز أن الخير في الفعل أو الترك فإذا حصل بالفكر والروية العلم بأن أحدهما خير التحق ذلك بالذي يقطع به من غير روية وفكر فانبعثت الإرادة منها كما تنبعث لدفع السيف والسنان، فإذا انبعث لفعل ما ظهر للعقل أنه خير سميت هذه الإرادة اختيارا مشتقا من الخير) افتعال منه (أي: هو انبعاث إلى ما ظهر للعقل أنه خير) يشير إلى أنه لازم، ومن قال: إنه متعد فإن معناه طلب الخير (وهو عين تلك الإرادة ولم ينظر في انبعاثها إلى ما انتظرت تلك الإرادة وهو ظهور خيرية الفعل في حقه إلا أن الخيرية في دفع السيف) عنه (ظهرت من غير روية) وفكر (بل على البديهة وهذا افتقر إلى الروية) والفكر (فالاختيار عبارة عن إرادة خاصة وهي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إدراكه توقف وعن هذا قيل: إن العقل محتاج إليه للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين، ولا يتصور أن تنبعث الإرادة إلا بحكم الحس والتخيل أو بحكم جزم من العقل ولذلك لو أراد الإنسان [ ص: 422 ] أن يحز رقبة نفسه مثلا لم يمكنه ذلك) وهذا (لا لعدم القدرة في يده ولا لعدم السكين أو السيف ولكن لفقد الإرادة الداعية المشخصة للقدرة، وإنما فقدت الإرادة لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحس بكون الفعل موافقا) له (وقتله نفسه ليس موافقا) له .

(فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في عقوبة مؤلمة لا تطاق لشدتها فإن العقل ههنا يتوقف في الحكم ويتردد; لأنه متردد بين شر الشرين فإن ترجح له بعد الروية) والفكر (أن ترك القتل أقل شرا لم يمكنه قتل نفسه وإن حكم بأن القتل أقل شرا وكان حكمه جزما لا ميل فيه ولا صارف منه انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه كالذي يتبع بالسيف) وقد شهره للقتل (فإنه يرمي نفسه من) أعلى (السطح مثلا وإن كان مهلكا ولا يبالي) من ذلك (ولا يمكنه أن لا يرمي نفسه فإن كان يتبع بضرب خفيف) غير مهلك كعصا أو حجر أو نحوهما (فإن انتهى إلى طرف السطح حكم العقل بأن الضرب أهون من الرمي فوقفت أعضاؤه فلا يمكنه أن يرمي نفسه ولا تنبعث له داعية البتة; لأن داعية الإرادة مسخرة لحكم العقل، والحس والقدرة مسخرة للداعية، والحركة مسخرة للقدرة، والكل يصدر منه بالضرورة فيه من حيث لا يدري فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور وأما أن يكون منه فكلا ولا .

فإذا معنى كونه مجبرا أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه ومعنى كونه مختارا أنه محل لإرادة حدثت فيه جبرا بعد حكم العقل بكون الفعل خيرا موافقا، وحدث الحكم أيضا جبرا فإذا هو مجبر على الاختيار، ففعل النار في الإحراق مثلا جبر محض وفعل الله تعالى اختيار محض، وفعل الإنسان منزلة بين المنزلتين فإنه مجبر على الاختيار، فطلب أهل الحق لهذا عبارة ثالثة لما كان فنا ثالثا) أي: نوعا آخر (وائتموا) أي: اقتدوا (فيه بكتاب الله تعالى فسموه كسبا) يشير إلى قوله تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت والمراد بأهل الحق هنا الأشاعرة فإنهم الذين سمو ذلك كسبا ولذلك ضربوا به المثل فقالوا: أدق من كسب الأشعري، وأما الماتريدية فإنهم استمروا على إطلاقهم بلفظ الاختيار وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في شرح قواعد العقائد .

(وليس مناقضا للجبر ولا للاختيار بل هو جامع بينهما عند من فهمه) وحاصل ما ذكره في الكسب بعد نقل أقوال تقدم ذكرها في محلها أن للقدرة بالنسبة إلى المقدور تعلقين، فمعنى الكسب أن يخلق الله تعالى في العبد قدرة متعلقة بالفعل تعلقا لا يترتب عليه وجود المقدور، ومن هنا قيل: لم يثبت من معنى الكسب غير مقارنة بالقدرة للفعل والذي يلوح بالتأمل الصادق أن الإنسان إذا فعل فعلا اختياريا فلا محالة يتصوره أولا بوجه ملائم، وهذا التصور ليس من قبل نفسه عند غير المعبر له، على أنه قد يقع ذلك في نفسه من غير توهم اختيار منه .

ثم ينبعث من ذلك التصور شوق إليه فتشتاق نفسه إلى حصوله وهذا الشوق أيضا من قبل الفياض لكنه يتفاوت قوة وضعفا حسب تفاوت التفات النفس إلى ذلك المتصور واستحسانه فربما يعرض عنه ويتصوره بوجه غير ملائم على وجه ما فيضعف شوقه إليه وتقل رغبته فيه، وربما يعجبه ذلك الأمر زيادة إعجاب فيديم ملاحظته إياه ذلك الوجه، ويكب عليها فيكمل شوقها إليه على حسب ذلك فينبعث منه طلب إلى فعله وقصد إلى تحصيله ليترتب منه الفعل عليه إما بخلقه تعالى على مجرى عادته أو بتأثير قدر العبد .

ثم إن تمكن الإنسان من الفعل والترك إنما يتوهم من أمرين من هذه الأمور: الأول: الإعراض عن تصور المطلوب على الوجه الملائم والالتفات إلى وجه آخر له وترك ذلك، وينبغي لمن يقول يكون الإنسان قادرا أن يقول بذلك إذ ليس فيه ما ينافي استبداد الخالق بخلق الموجودات لكن الأظهر أن ذلك أيضا تابع للهيئات المزاجية والعوارض النفسانية الجبلية المكتسبة الخلقية كما هو مذهب الحكماء وإمام الحرمين.

وإن كان له أن يغير تلك الهيئة ويبدلها بتوفيق الله تعالى بالتأمل في أفعاله وما هو داع إليها من أحواله، والثاني: [ ص: 423 ] الطلب المنبعث عن الشوق المسمى بالقصد والإرادة فينبغي أن لا يسند ذلك إلى الإنسان ولا يجعل متمكنا من تركه مثل الحياء والكسل ترتب سائر العاديات على أسبابها، والله أعلم .




الخدمات العلمية