الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولنقتصر على هذا القدر من بيان نعم الله تعالى في الأسباب التي أعدت للأكل ، ولو ذكرنا كيفية احتياج الكبد إلى القلب ، والدماغ ، واحتياج كل واحد من هذه الأعضاء الرئيسية إلى صاحبه ، وكيفية انشعاب العروق الضوارب من القلب إلى سائر البدن وبواسطتها يصل الحس وكيفية انشعاب العروق السواكن من الكبد إلى سائر البدن ، وبواسطتها يصل الغذاء ، ثم كيفية تركب الأعضاء ، وعدد عظامها ، وعضلاتها ، وعروقها ، وأوتارها ، ورباطاتها ، وغضاريفها ، ورطوباتها ، لطال الكلام ، وكل ذلك محتاج إليه للأكل ، ولأمور أخر سواه بل في الآدمي آلاف من العضلات ، والعروق ، والأعصاب مختلفة بالصغر ، والكبر ، والدقة والغلظ ، وكثرة الانقسام ، وقلته ولا شيء منها إلا وفيه حكمة أو اثنتان أو ثلاث أو أربع إلى عشر وزيادة وكل ذلك نعم من الله تعالى عليك لو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن لهلكت يا مسكين ، فانظر إلى نعمة الله تعالى عليك أولا لتقوى بعدها على الشكر فإنك لا تعرف من نعمة الله سبحانه إلا الأكل وهو أخسها : ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع فتأكل ، والحمار أيضا يعلم أنه يجوع فيأكل ، ويتعب فينام ، ويشتهي فيجامع ويستنهض ، فينهض ويرمح ، فإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار فكيف تقوم بشكر نعمة الله عليك ؟ وهذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز : قطرة من بحر واحد من بحار نعم الله فقط فقس على الإجمال ما أهملناه : من جملة ما عرفناه حذرا من التطويل وجملة ما عرفناه وعرفه الخلق كلهم ، بالإضافة إلى ما لم يعرفوه من نعم الله تعالى ، أقل من قطرة من بحر إلا أن من علم شيئا من هذا أدرك شمة من معاني قوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، ثم انظر كيف ربط الله تعالى قوام هذه الأعضاء ، وقوام منافعها ، وإدراكاتها ، وقواها ، ببخار لطيف يتصاعد من الأخلاط الأربعة ، ومستقره القلب ، ويسري في جميع البدن بواسطة العروق الضوارب ، فلا ينتهي إلى جزء من أجزاء البدن إلا ويحدث عند وصوله في تلك الأجزاء ما يحتاج إليه من قوة حس وإدراك وقوة حركة وغيرها كالسراج الذي يدار في أطراف البيت فلا يصل إلى جزء إلا ويحصل بسبب وصوله ضوء على أجزاء البيت من خلق الله تعالى واختراعه ، ولكنه جعل السراج سببا له بحكمته ، وهذا البخار اللطيف هو الذي تسميه الأطباء الروح ومحله القلب ومثاله جرم نار السراج والقلب له كالمسرجة والدم الأسود الذي في باطن القلب له كالفتيلة والغذاء له كالزيت والحياة الظاهرة في سائر أعضاء البدن بسببه كالضوء للسراج في جملة البيت ، وكما أن السراج إذا انقطع زيته انطفأ فسراج الروح أيضا ينطفئ مهما انقطع غذاؤه ، وكما أن الفتيلة قد تحترق فتصير رمادا بحيث لا تقبل الزيت . فينطفئ السراج مع كثرة الزيت فكذلك الدم الذي تشبث به هذا البخار في القلب قد يحترق بفرط حرارة القلب فينطفئ مع وجود الغذاء فإنه لا يقبل الغذاء الذي يبقى به الروح كما لا يقبل الرماد الزيت قبولا تتشبث النار به ، وكما أن السراج تارة ينطفئ بسبب من داخل كما ذكرناه ، وتارة بسبب من خارج كريح عاصف فكذلك الروح تارة تنطفئ بسبب من داخل ، وتارة بسبب من خارج ، وهو القتل ، وكما أن انطفاء السراج بفناء الزيت أو بفساد الفتيلة أو بريح عاصف أو بإطفاء إنسان لا يكون إلا بأسباب مقدرة في علم الله مرتبة ، ويكون كل ذلك بقدر فكذلك انطفاء الروح ، وكما أن انطفاء السراج هو منتهى وقت وجوده فيكون ذلك أجله الذي أجل له في أم الكتاب فكذلك انطفاء الروح ، وكما أن السراج إذا انطفأ أظلم البيت كله فالروح إذا انطفأ أظلم البدن كله وفارقته ، أنواره التي كان يستفيدها من الروح ، وهي أنوار الإحساسات والقدر والإرادات وسائر ما .يجمعها معنى لفظ الحياة فهذا أيضا رمز وجيز إلى عالم آخر من عوالم نعم الله تعالى وعجائب صنعه وحكمته ، ليعلم أنه لو كان البحر مدادا لكلمات ربي : لنفد البحر : قبل أن تنفد كلمات ربي عز وجل فتعسا لمن كفر بالله تعسا وسحقا لمن كفر نعمته سحقا .

فإن قلت فقد وصفت الروح ومثلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الروح فلم يزد عن أن قال : " قل الروح من أمر ربي " فلم يصفه لهم على هذا الوجه فاعلم أن هذه غفلة عن الاشتراك الواقع في لفظ الروح ، فإن الروح يطلق لمعان كثيرة لا نطول بذكرها نحن إنما وصفنا من جملتها جسما لطيفا تسميه الأطباء روحا ، وقد عرفوا صفته ووجوده وكيفية سريانه في الأعضاء ، وكيفية حصول الإحساس والقوى في الأعضاء به حتى إذا خدر بعض الأعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة في مجرى هذا الروح فلا يعالجون موضع الخدر بل منابت الأعصاب ومواقع السدة فيها ويعالجونها بما يفتح السدة فإن هذا الجسم بلطفه ينفذ في شباك العصب وبواسطته يتأدى من القلب إلى سائر الأعضاء وما يرتقي إليه معرفة الأطباء فأمره سهل نازل .

التالي السابق


(ولنقتصر على هذا القدر من بيان نعم الله تعالى في الأسباب التي أعدت للأكل، ولو ذكرنا كيفية احتياج الكبد إلى القلب، والدماغ، واحتياج كل واحد من هذه الأعضاء الرئيسة إلى صاحبه، وكيفية انشعاب العروق الضوارب من القلب إلى سائر البدن، وبواسطتها يصل الغذاء، ثم كيفية تركب الأعضاء، وعدد عظامها، وعضلاتها، وعروقها، وأوتارها، ورباطاتها، وغضاريفها، ورطوباتها، لطال الكلام، وكل ذلك محتاج إليه للأكل، ولأمور أخر سواه) .

ومجمل القول في العروق أن الكبد مقعر الباطن، محدب الظاهر، ويطلع من محدبه عرق عظيم يسمى "الأجوف"، لسعة تجويفه بالنسبة إلى تجاويف ماساريقا، وذلك [ ص: 113 ] يسهل نفوذ الدم فيه. وأصل التشعب شعب كثيرة دقيقة جدا كالشعر مستقر، فإذا طلع ليس يمر كبير شيء حتى ينقسم قسمين، الأول وهو الأعظم، يأخذ نحو أعالي البدن ليسقي الأعضاء العالية، فيمر حتى يلاصق الحجاب، وينقسم منه هناك عرقان يتفرقان ثم ينفذ الحجاب، فإذا نفذه انقسمت منه عروق دقيقة، واتصلت بالغشاء الذي يقسم الصدر بقسمين، وبغلاف القلب، وبالقوة المسماة بالغوثة، وتفرقت فيها، ثم يتشعب فيها شعبة عظيمة تتصل بالأذن اليمنى من أذن القلب، وتنقسم هذه الشعبة ثلاثة أقسام، وإذا جاوز القلب مر على استقامته إلى أن يجاوز الترقوتين، وينقسم حينئذ في مسلكه هذا شعبا صغارا في كل واحد من الجانبين يسقي ما يحاذيهما، ويخرج منها شعب إلى خارج فيسقي العضل، وعند محاذاته للإبط يخرج منه إلى خارج شعبة عظيمة يأتي اليد من ناحية الإبط، وهو المسمى بـ"الباسليق"، فإذا حاذى بالترقوتين الوسط منهما موضع اللبة انقسم قسمين قسم آخذ إلى ناحية اليمين، وقسم آخذ إلى ناحية اليسار، وانقسم كل منهما إلى قسمين أحدهما ركب الكتف وجاء إلى اليد من الجانب الوحشي، وهو العرق المسمى بـ"القيفال"، والثاني انقسم إلى قسمين في كل جانب، وهما الوداج الغائر، والوداج الظاهر، ولا يتم ذبح الحيوان إلا بقطع هذين. ويتشعب من العرق الكتفي في مروره بالعضد شعب صغار، ويسقي ظاهر العضد، ومن الإبطي شعب صغار يسقي باطنه، فإذا قاربا مفصل المرفق انقسما فيكون منهما العرق المسمى بالأكحل، ومن الإبطي العرق الذي بين البنصر والخنصر المسمى بالأسيلم. والقسم الثاني من الأجوف يأخذ نحو أسافل البدن فيركب خرز الظهر آخذ إلى الأسفل، ويتشعب منه شعب يأتي لفائف الكل وأغشيتها، ثم شعبتان يصيران إلى الأنثيين، فإذا بلغ آخر الخرز انقسم قسمين أحدهما آخذ نحو الرجل اليمنى، والثاني نحو اليسرى، حتى إذا بلغا منشأ الركبة انقسم ثلاثة أقسام منها المابض، والصافن، وعرق النسا، ويتشعب من كل منها شعب كثيرة .

فهذا معرفة العروق السواكن المسماة بـ"الأوردة"، وأما الضوارب المسماة بـ"الشرايين" فمنبتها التجويف الأيسر من القلب، ويخرج من هذا التجويف شريانان أحدهما صغير غير متضاعف يسمى الشريان الوريدي، والثاني كبير جدا ويسمى الأبهر، وفي الأوردة عرق مضاعف يسمى الوريد الشرياني، وهو شعبة من الأجوف متصلة بالأذن اليمنى من أذني القلب، كما تقدم ذكرها، وهي أعظم عروق القلب لأن سائر عروقه يوصل إليه نسيم الهواء، وهذا يوصل إليه الغذاء. والأبهر عند طلوعه يتشعب منه شعبتان إحداهما تأخذ نحو أعالي البدن، ويتشعب منها شعب صغار في العضد، والثانية تصعد إلى ظاهر الوجه والرأس، وتتفرق فيما هنالك من الأعضاء الظاهرة، وقد يظهر بعض هذا القسم خلف الأذن من الصدغ .

وأما الأعضاء فهي أجسام كثيفة متكونة من الرطوبات المحمودة، وهي إما مفردة أو مركبة، فالمفردة هي التي أي جزء محسوس أخذت منها كان مشاركا للكل في الطبع والمزاج، ولذلك يسمى متشابه الأعضاء، وهي العظم ثم الغضروف ثم الوتر ثم العصب ثم الوتر ثم الرباط ثم الأوردة، وهي العروق السواكن ثم الأغشية ثم اللحم ثم الشحم ثم المخ ثم الجلد ثم الشعر. والمركبة هي التي تكون فيها أجزاء محسوسة متخالفة بالطبع والمزاج وتركبها إما أن يكون أوليا كالعضل لأنه مركب من الأعضاء المفردة التي هي العصب والرباط واللحم والغشاء أو ثانيا كالعين لأنها مركبة من الأعضاء المركبة التي هي الطبقات أو ثالثا كالوجه لأنه مركب من الأنف والخد وغيرهما، وكل واحد منهما مركب ثانيا أو رابعا كالرأس فإنه مركب من الدماغ والوجه والأذن ومن الأعضاء المركبة الأعضاء الرئيسة، وهي القلب والدماغ والكبد والأنثيان. وأما العظام فجملتها مائتان وثمانية وأربعون سوى السمسمانيات، وسوى العظم الشبيه باللام، وسوى العظم الذي في القلب، فإنهما عند بعض الناس من جنس الغضروف (بل في الآدمي آلاف من العضلات، والعروق، والأعصاب مختلفة بالصغر، والكبر، والدقة، والغلظة، وكثرة الانقسام، وقلته) على ما هو مودع في كتب التشريح (ولا شيء منها إلا وفيه حكمة) واحدة (أو اثنتان أو ثلاث أو أربع إلى عشرة وزيادة) [ ص: 114 ] على ذلك .

(وكل ذلك نعم من الله تعالى عليك لو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن لهلكت يا مسكين، فانظر إلى نعمة الله تعالى عليك أولا لتقوى بعدها على الشكر) عليها (فإنك لا تعرف من نعمة الله سبحانه إلا الأكل وهو أخسها) أي: أقلها مقدارا (ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع فتأكل، والحمار يعلم أيضا أنه يجوع فيأكل، ويتعب فينام، ويشتهي فيجامع، ويستريح فينهض ويرمح، فإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرفه الحمار فكيف تقوم بشكر نعمة الله عليك؟ وهذا الذي رمزنا إليه بالإيجاز) أي: الاختصار (قطرة من بحر واحد من بحار نعم الله فقط فقس على الإجمال ما أهملناه) أي: تركنا ذكره (من جملة ما عرفناه حذرا من التطويل) الذي يمل الخواطر. (وجملة ما عرفناه وعرفه الخلق كلهم، بالإضافة إلى ما لم يعرفوه من نعم الله تعالى، أقل من قطرة في بحر إلا أن من علم شيئا من هذا) بقوة عرفانه (أدرك شمة من معاني قوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، ثم انظر كيف ربط الله تعالى قوام هذه الأعضاء، وقوام منافعها، وإدراكاتها، وقواها، ببخار لطيف يتصاعد من الأخلاط الأربعة، ومستقره القلب، ويسري في جميع البدن بواسطة العروق الضوارب، فلا ينتهي إلى جزء من أجزاء البدن إلا ويحدث عند وصوله في تلك الأجزاء ما يحتاج إليه من قوة حس وإدراك وقوة حركة أو غيرها) .

اعلم أن الروح عند الأطباء جسم لطيف بخاري يتولد من الدم الوارد على القلب في البطن الأيسر منه، وفائدة وجوده في البدن أن يكون حاملا للقوى حتى ينتقل ويجري في البدن بتوسطه، لأن القوى لكونها من الأعراض لا تنتقل بدون المحال، ولذلك صار أصنافها كأصنافها، فإن الروح إذا تولد في القلب يسمى روحا حيوانيا، لكونه عاملا للقوة الحيوانية، فينفذ في الشرايين إلى الأعضاء فيفيدها الحياة، وجزء صالح من هذا الروح يصعد إلى الدماغ فيغيره إلى مزاج أحد يصير به روحا نفسانيا أي: روحا صالحا لأن يكون مركبا للقوى النفسانية فتصدر أفعالها عنه، وجزء ليس بكثير في المقدار من هذا الروح أي الحيواني يصير إلى جانب الكبد فيغيره تغيرا يصير به روحا طبيعيا أي: روحا يستعد لقبول القوى الطبيعية فتصدر أفعال منه .

وأما القوى فهي هيئات في الجسم الحيواني بها يمكن أن يفعل أفعاله بالذات، وهي ثلاثة أجناس أحدها القوى الطبيعية، والثانية القوى النفسانية، والثالثة القوى الحيوانية، ومن القوى الطبيعية ما هي متصرفة لأجل الشخص، وهي الغاذية والنامية، ومنها ما هي متصرفة لأجل النوع، وهي قوتان المولدة، والمصورة، والغاذية تخدمها قوى أربع الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة. وأما القوى النفسانية فمنها محركة وهي الشوقية، والغضبية، والفاعلة، والمدركة، وأما القوة الحيوانية فهي مبدأ لحركة القلب والشرايين، ولحركة الجوهر الروحي اللطيف إلى الأعضاء فهي (كالسراج الذي يدار في أطراف البيت فلا يصل إلى جزء إلا ويحصل بسبب وصوله ضوء على أجزاء البيت من خلق الله تعالى واختراعه، ولكنه جعل السراج سببا له بحكمته، وهذا البخار اللطيف هو الذي يسميه الأطباء الروح ومحله القلب) ثم يجول في البدن بتوسطه، وهذا هو المسمى بالروح الحيواني عندهم كما تقدم (ومثاله جرم نار السراج والقلب له كالمسرجة) وهو موضع السراج (والدم الأسود الذي في باطن القلب له كالفتيلة والغذاء له كالزيت والحياة الظاهرة له في سائر أعضاء البدن بسببه كالضوء للسراج في جملة البيت، وكما أن السراج إذا انقطع زيته انطفأ) وذهب نوره (فسراج الروح أيضا ينطفئ مهما انقطع غذاؤه، وكما أن الفتيلة قد تحترق فتصير رمادا بحيث لا تقبل الزيت فينطفئ [ ص: 115 ] السراج مع كثرة الزيت فكذلك الدم الذي تشبث به هذا البخار في القلب قد يحترق بفرط حرارة القلب فينطفئ مع وجود الغذاء فإنه لا يقبل الغذاء الذي تبقى به الروح كما لا يقبل الرماد الزيت قبولا يتشبث النار به، وكما أن السراج تارة ينطفئ بسبب من داخل كما ذكرناه، وتارة) ينطفئ (بسبب من خارج كريح عاصف) أو إطفاء إنسان .

(فكذلك الروح تارة تنطفئ بسبب من داخل، وتارة بسبب من خارج، وهو القتل، وكما أن انطفاء السراج بفناء الزيت أو بفساد الفتيلة أو بريح عاصف أو بإطفاء إنسان لا يكون إلا بأسباب مقدرة مرتبة في علم الله تعالى، ويكون كل ذلك بقدر فكذلك انطفاء الروح، وكما أن انطفاء السراج هو منتهى وقت وجوده فيكون ذلك أجله الذي أجل له في أم الكتاب فكذلك انطفاء الروح، وكما أن السراج إذا انطفأ أظلم البيت كله فالروح إذا انطفأ أظلم البدن كله، وفارقت أنواره التي كان يستفيدها من الروح، وهي أنوار الإحساسات) الظاهرة والباطنة (والقدر) وهي القوى (والإرادات وسائر ما يجمعه معنى لفظ الحياة) .

(فهذا أيضا رمز وجيز إلى عالم آخر من عوالم نعم الله تعالى وعجائب صنعه و) بدائع (حكمته، ليعلم أنه لو كان البحر) مع سعته (مدادا) والشجر أقلاما والبحر يمدها (لكلمات ربه) أي: لإحصائها (لنفد البحر) أي: فرغ وفني (قبل أن تنفد كلماته) وفي بعض النسخ: "قبل أن تنفد كلمات ربي" الآية. (فتعسا لمن كفر بالله تعسا وسحقا لمن كفر نعمته سحقا) يقال تعس تعسا من حد نفع أكب على وجهه وعثر، وقيل: هلك، وقيل: لزمه الشر، وهو تاعس وتعس من حد تعب لغة فيه فهو تعيس، ويقرأ هذا بالحركة وبالهمزة فيقال تعسه الله وأتعسه، والسحق بالضم البعد يقال في الدعاء: سحقا له وبعدا. (فإن قلت فقد وصفت الروح ومثلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الروح) وكان السائل له عنه طائفة من اليهود (فلم يزد أن قال: قل الروح من أمر ربي فلم يصفه لهم على هذا الوجه) وهو متفق عليه من حديث ابن مسعود، وقد تقدم في شرح عجائب القلب .

(فاعلم أن هذه غفلة عن الاشتراك الواقع في لفظ الروح، فإن الروح تطلق لمعان كثيرة لا نطيل بذكرها) وقد ذكرنا شيئا منها في شرح عجائب القلب (ونحن إنما وصفنا من جملتها جسما لطيفا) بخاريا يتولد من الدم الوارد على القلب في البطن الأيسر منه (تسميه الأطباء روحا، وقد عرفوا صفته ووجوده وكيفية سريانه في الأعضاء، وكيفية حصول الإحساس والقوى في الأعضاء به) وقسموه إلى حيواني ونفساني وطبيعي (حتى إذا خدر بعض الأعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة في مجرى هذا الروح فلا يعالجون موقع الخدر بل) ينظرون (منابت الأعصاب ومواقع السدة فيها ويعالجونها بما يفتح السدة) فيزول الخدر (فإن هذا الجسم بلطفه ينفذ في شباك العصب وبواسطته يتأدى من القلب إلى سائر الأعضاء) على الوجه الذي تقدم ذكره (وما ترتقي إليه معرفة الأطباء فأمره سهل نازل) الدرجة .




الخدمات العلمية