الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا دق المجال ولطف لطف الماء مثلا ولم يكن العبور إلا بالسباحة فقد يقدر الماهر بصنعة السباحة أن يعبر بنفسه ، وربما لم يقدر على أن يستجر وراءه آخر فهذه أمور نسبة السير عليها إلى السير على ما هو بحال جماهير الخلق كنسبة المشي على الماء إلى المشي على الأرض ، والسباحة يمكن أن تتعلم فأما المشي على الماء فلا يكتسب بالتعليم بل ينال بقوة اليقين ، ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام يقال أنه مشى على الماء ، فقال صلى الله عليه وسلم : لو ازداد يقينا لمشى على الهواء .

فهذه رموز وإشارات إلى معنى الكراهة ، والمحبة ، والرضا ، والغضب ، والشكر ، والكفران ، لا يليق بعلم المعاملة أكثر منها ، وقد ضرب الله تعالى مثلا لذلك تقريبا إلى أفهام الخلق إذ عرف أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه فكانت عبادتهم غاية الحكمة في حقهم ثم أخبر أن له عبدين يحب أحدهما واسمه جبريل وروح القدس والأمين وهو عنده محبوب مطاع أمين مكين ويبغض الآخر واسمه إبليس وهو اللعين المنظر : إلى يوم الدين ، ثم أحال الإرشاد إلى جبريل فقال تعالى : قل نزله روح القدس من ربك بالحق ، وقال تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وأحال الإغواء على إبليس فقال تعالى ليضل عن سبيله ، والإغواء هو استيقاف العباد دون بلوغ غاية الحكمة ، فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي غضب عليه والإرشاد سياقه لهم إلى الغاية ، فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي أحبه وعندك في العادة له مثال فالملك إذا كان محتاجا إلى من يسقيه الشراب وإلى من يحجمه وينظف فناء منزله عن القاذورات وكان له عبدان فلا يعين للحجامة والتنظيف إلا أقبحهما وأخسهما .

ولا يفوض حمل الشراب والطيب إلا إلى أحسنهما وأكملهما وأحبهما إليه ولا ينبغي أن تقول هذا فعلي ولم يكون فعله دون فعلي ، فإنك أخطأت إذ أضفت ذلك إلى نفسك بل هو الذي صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه ، والفعل المحبوب بالشخص المحبوب إتماما للعدل فإن عدله ، تارة يتم بأمور لا مدخل لك فيها ، وتارة يتم فيك فإنك أيضا من أفعاله فداعيتك وقدرتك وعلمك وعملك وسائر أسباب حركاتك في التعبير هو فعله الذي رتبه بالعدل ترتيبا تصدر منه الأفعال المعتدلة إلا أنك لا ترى إلا نفسك فتظن أن ما يظهر عليك في عالم الشهادة ليس له سبب من عالم الغيب والملكوت ، فلذلك تضيفه إلى نفسك وإنما أنت مثل الصبي الذي ينظر ليلا إلى لعب المشعبذ الذي يخرج صورا من وراء حجاب ترقص وتزعق وتقوم وتقعد وهي مؤلفة من خرق لا تتحرك بأنفسها ، وإنما تحركها خيوط شعرية دقيقة لا تظهر في ظلام الليل ورءوسها ، في يد المشعبذ وهو محتجب عن أبصار الصبيان فيفرحون ويتعجبون لظنهم أن تلك الخرق ترقص وتلعب وتقوم وتقعد وأما العقلاء فإنهم يعلمون أن ذلك تحريك وليس بتحريك ولكنهم ربما لا يعلمون كيف تفصيله والذي يعلم بعض تفصيله لا يعلمه كما يعلمه المشعبذ الذي الأمر إليه والجاذبة بيده ، فكذلك صبيان أهل الدنيا ، والخلق كلهم صبيان بالنسبة إلى العلماء ينظرون إلى هذه الأشخاص فيظنون أنها المتحركة فيحيلون عليها والعلماء يعلمون أنهم محركون إلا أنهم لا يعرفون كيفية التحريك وهم الأكثرون إلا العارفون والعلماء والراسخون فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطا دقيقة عنكبوتية بل أدق منها بكثير معلقة من السماء متشبثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض ، لا تدرك تلك الخيوط لدقتها بهذه الأبصار الظاهرة ثم شاهدوا رءوس تلك الخيوط في مناطات لها هي معلقة بها وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هي في أيدي الملائكة المحركين للسموات ، وشاهدوا أيضا ملائكة السموات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ما ينزل عليهم من الأمر من حضرة الربوبية كي لا يعصوا الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وعبر عن هذه المشاهدات في القرآن وقيل: وفي السماء رزقكم وما توعدون وعبر عن انتظار ملائكة السموات لما ينزل إليهم من القدر والأمر فقيل : خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما وهذه أمور لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم وعبر ابن عباس رضي الله عنهما عن اختصاص الراسخين في العلم بعلوم لا تحتملها أفهام الخلق حيث قرأ قوله تعالى : يتنزل الأمر بينهن فقال : لو ذكرت ما أعرفه من معنى هذه الآية لرجمتموني ، وفي لفظ آخر : لقلتم إنه كافر .

التالي السابق


(وإذا دق المجال ولطف لطف الماء مثلا ولم يكن العبور إلا بالسباحة فقد يقدر الماهر بصنعة السباحة أن يعبر بنفسه، وربما يقدر على أن يستجر وراءه) رجلا (آخر) لعدم قوته أو خوفه من الهلاك. (فهذه أمور نسبة السير عليها إلى السير على ما هو مجال جماهير الخلق كنسبة المشي على الماء إلى المشي على الأرض، والسباحة) على الماء (يمكن أن تتعلم فأما المشي على الماء فلا يكتسب بالتعلم بل ينال بقوة اليقين، ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عيسى عليه السلام يقال إنه مشى على الماء، فقال: لو ازداد يقينا لمشى على الهواء) . قال العراقي : هذا الحديث منكر لا يعرف هكذا، والمعروف ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين من قول بكر بن عبد الله المزني قال: فقد الحواريون نبيهم، فقيل لهم توجه نحو البحر، فانطلقوا يطلبونه، فلما انتهوا إلى البحر إذ هو أقبل يمشي على الماء، فذكر حديثا فيه أن عيسى قال: لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء. وروى الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف من حديث معاذ بن جبل: "لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور، ولزالت بدعائكم الجبال" انتهى .

قلت: روى ابن أبي الدنيا أيضا وابن عساكر عن فضيل بن عياض قال: قيل لعيسى بن مريم: بأي شيء تمشي على الماء؟ قال: بالإيمان واليقين، قالوا: فإنا آمنا كما آمنت، وأيقنا كما أيقنت، قال: فامشوا إذا، فمشوا معه، فجاء الموج فغرقوا، فقال لهم عيسى: ما لكم؟ فقالوا: خفنا الموج، فقال: ألا خفتم رب الموج؟، فأخرجهم ثم ضرب بيده إلى الأرض فقبض منها، فإذا في إحدى يديه ذهب، وفي الأخرى مدر، فقال: أيهما أحلى في قلوبكم؟ قالوا: الذهب، قال: فإنهما عندي سواء .

(فهذه رموز وإشارات إلى معنى الكراهة، والمحبة، والرضا، والغضب، والشكر، والكفران، لا يليق بعلم المعاملة أكثر منها، وقد ضرب الله تعالى مثلا لذلك تقريبا إلى أفهام الخلق إذ عرف) على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم (أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه) وذلك في قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، (فكانت عبادتهم غاية الحكمة في حقهم ثم أخبر) تعالى (أن له عبدين يحب أحدهما واسمه جبريل وروح القدس والأمين) وقد ذكر بهذه الأسماء في القرآن فجبريل سريانية معناه عبد الله وسمي روح القدس لأن الروح ما به حياة الأنفس، وأضيف إلى القدس لنزاهته وصفاء إشراقه، وسمي الأمين لأمانته في تبليغ وحي الله تعالى إلى رسله، (وهو عنده محبوب مطاع أمين مكين) قال تعالى: مطاع ثم أمين، (ويبغض الآخر واسمه إبليس) إفعيل من البلس وهو التحير (وهو اللعين المنظر) أي: المطرود الممهل (إلى يوم الدين، ثم أحال الإرشاد إلى جبريل فقال: قل) يا محمد (نزله روح القدس من ربك بالحق، وقال تعالى: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) وقال تعالى: نزل به الروح الأمين، وأيدناه بروح القدس.

(وأحال الإغواء إلى إبليس فقال: ليضلهم عن سبيله، والإغواء هو استيقاف العباد دون بلوغ غاية الحكمة، فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي أبغضه) وفي نسخة: غضب عليه، (والإرشاد) هو (سياقه لهم إلى الغاية، فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي أحبه وعندك في العادة له مثال فالملك إذا كان محتاجا إلى من يسقيه الشراب وإلى من يحجمه وينظف فناء منزله عن القاذورات والأوساخ وكان له عبدان فلا يعين للمساحة والتنظيف إلا أقبحهما وأخسهما ولا يفوض حمل الشراب الطيب إلا إلى أحسنهما) وجها (وأكملهما)

[ ص: 76 ] عقلا (وأحبهما إليه فلا ينبغي أن تقول هذا فعلي ولم يكن فعله دون فعلي، فإنك أخطأت إذا أضفت ذلك إلى نفسك) جهلا منك (بل هو الذي صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه، والفعل المحبوب بالشخص المحبوب إتماما للعدل، فإنه تارة يتم بأمور لا مدخل لك فيها، وتارة يتم بك فإنك أيضا من أفعاله) بل كل ما في الوجود هو من أفعال الله تعالى، (فداعيتك وقدرتك وعلمك وسائر أسباب حركاتك في التعيين هو الذي رتبه بالعدل ترتيبا تصدر منه الأفعال المعتدلة) ، ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله، ولن يعرف عدله من لم يعرف فعله، فمن أراد فهم ذلك فليحط علما بأفعال الله تعالى كلها وليتك تفي بمعرفة عجائب نفسك فتتفرغ للتأمل فيها وفيما يكتنفها من الأجسام، (إلا أنك لا ترى إلا نفسك فتظن أن ما يظهر عليك في عالم الشهادة ليس له سبب من عالم الغيب والملكوت، فلذلك تضيفه إلى نفسك) وتنسى ترتيب الأسباب وتوجهها إلى المسببات بأقصى وجوه العدل .

(وإنما أنت مثل الصبي الذي ينظر ليلا إلى لعب المشعبذ) ويقال: المشعوذ من الشعبذة والشعوذة، وهو أن يرى الإنسان منه ما ليس له حقيقة وقد بينه بقوله (الذي يخرج صورا) مختلفة الأشكال (من وراء حجاب) رفيع (ترقص وتزعق وتقوم وتقعد) وتمشي وتقف (وهي مؤلفة من صور لا تتحرك بأنفسها، وإنما تحركها خيوط شعرية دقيقة لا تظهر في ظلام الليل، ورؤوسها في يد المشعبذ وهو محتجب) وراء حجاب (عن أبصار الصبيان فيفرحون ويتعجبون لظنهم أن تلك الخرق ترقص وتلعب وتقوم وتقعد وأما العقلاء) المميزون (فإنهم يعلمون أن هذا تحريك وليس بتحرك لكنهم ربما لا يعلمون تفصيله والذي يعلم بعض تفصيله لا يعلمه كما يعلمه المشعبذ الذي الأمر إليه والجاذبة بيديه، فكذلك صبيان أهل الدنيا، والخلق كلهم صبيان إلا العلماء) وفي نسخة: بالنسبة إلى العلماء (ينظرون إلى هذه الأشخاص فيظنون أنها المتحركة فيحيلون عليها والعلماء يعرفون أنهم محركون إلا أنهم لا يعلمون كيفية التحريك وهم الأكثرون) فيكتفون بالعلم الإجمالي (إلا العارفون) منهم (والعلماء الراسخون فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطا دقيقة عنكبوتية بل أدق منها بكثير معلقة من السماء متشبثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض، لا تدرك تلك الخيوط لدقتها بهذه الأبصار الظاهرة ثم شاهدوا رؤوس تلك الخيوط في مناطات لها هي معلقة بها وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هي في أيدي الملائكة المحركين للسموات، وشاهدوا أيضا أبصار ملائكة السموات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ما ينزل عليهم من الأمر من حضرة الربوبية كيلا يعصوا الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) فهم مسخرون لذلك .

(وعبر عن انتظار ملائكة السموات لما ينزل عليهم من الأمر والقدر فقال: خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) وقال تعالى: فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها . (وهذه أمور) إلهية [ ص: 77 ] (لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم) بتعليم الله إياهم، وتفهيم الأمور الإلهية بالأمور العرفية عسير جدا إنما نذكر الأمثلة لأجل التنبيه عليها (وعبر ابن عباس) رضي الله عنه (عن اختصاص الراسخين في العلم بعلوم لا تحملها أفهام الخلق حيث قرأ قوله تعالى: يتنزل الأمر بينهن فقال: لو ذكرت ما أعرفه) وفي نسخة: ما عرفت فيه (من معنى هذه الآية لرجمتموني، وفي لفظ آخر: لقلتم إنه كافر) ، وذلك لأن أفهامهم قاصرة لا تحتمل المعاني الدقيقة من أسرار الربوبية، وإليه يشير ما ورد: إفشاء سر الربوبية كفر .




الخدمات العلمية