فالصبر على التحقيق عبارة عنها والعمل هو كالثمرة يصدر عنها ولا يعرف هذا إلا بمعرفة كيفية الترتيب بين الملائكة والإنس والبهائم فإن الصبر خاصية الإنس ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة أما في البهائم فلنقصانها وأما في الملائكة فلكمالها .
وبيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات وصارت مسخرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة ، وليس فيها قوة تصادم الشهوة وتردها عن مقتضاها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا .
وأما الملائكة عليهم السلام فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية ، والابتهاج بدرجة القرب منها ، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة صادة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف .
وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصا مثل البهيمة لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة ثم شهوة النكاح على الترتيب وليس له البتة إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما ، وليس في الصبي إلا جند الهوى كما في البهائم ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بني آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم فوكل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين أحدهما يهديه ، والآخر يقويه ، فتميز بمعونة الملكين عن البهائم ، واختص بصفتين إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب ، وكل ذلك حاصل من الملك الذي إليه الهداية والتعريف ، فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب ، بل إلى مقتضى شهواتها في الحال فقط ، فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ وأما الدواء النافع مع كونه مضرا في الحال فلا تطلبه ولا تعرفه ، فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتباع الشهوات له مغبات مكروهة في العاقبة ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضر ، فكم من مضر يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلا ، ولكن لا قدرة له على دفعه فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع بها في نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة حتى يقطع عداوتها عن نفسه ، فوكل الله تعالى به ملكا آخر يسدده ويؤيده ويقويه بجنود لم تروها وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة ، فتارة يضعف هذا الجند وتارة يقوي ذلك ، بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد كما أن نور الهداية أيضا يختلف في الخلق اختلافا لا ينحصر . قوة الصبر
فلنسم هذه الصفة التي بها فارق الإنسان البهائم في قمع الشهوات وقهرها باعثا دينيا ولنسم مطالبة الشهوات بمقتضياتها باعث الهوى وليفهم أن القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى ، والحرب بينهما سجال ومعركة هذا القتال قلب العبد ، ومدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله تعالى ، ومدد باعث الشهوة من الشياطين الناصرين لأعداء الله تعالى .