بيان طريق . كشف الغطاء عن الشكر في حق الله تعالى
لعل يخطر ببالك أن الشكر إنما يفعل في حق منعم هو صاحب حظ في الشكر فإنا نشكر الملوك إما بالثناء ليزيد محلهم في القلوب ويظهر كرمهم عند الناس فيزيد به صيتهم وجاههم أو بالخدمة التي هي إعانة لهم على بعض أغراضهم أو بالمثول بين أيديهم في صورة الخدم ، وذلك تكثير لسوادهم وسبب لزيادة جاههم فلا يكونون شاكرين لهم إلا بشيء من ذلك ، وهذا محال في حق الله تعالى من وجهين أحدهما أن ، وعن نشر الجاه والحشمة بالثناء والإطراء وعن تكثير سواد الخدم بالمثول بين يديه ركعا سجدا ، فشكرنا إياه بما لا حظ فيه يضاهي شكرنا الملك المنعم علينا بأن ننام في بيوتنا أو نسجد أو نركع إذ لا حظ للملك فيه وهو غائب لا علم له ، ولا حظ لله تعالى في أفعالنا كلها الوجه الثاني أن كل ما نتعاطاه باختيارنا فهو نعمة أخرى من نعم الله علينا ، إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا وداعيتنا وسائر الأمور التي هي أسباب حركتنا ، ونفس حركتنا من خلق الله تعالى ونعمته ، فكيف نشكر نعمة بنعمة ، ولو أعطانا الملك مركوبا فأخذنا مركوبا آخر له وركبناه أو أعطانا الملك ، مركوبا آخر ، لم يكن الثاني شكرا للأول منا ، بل كان الثاني يحتاج إلى شكر كما يحتاج الأول ، ثم لا يمكن شكر الشكر إلا بنعمة أخرى فيؤدي إلى أن يكون الشكر محالا في حق الله تعالى من هذين الوجهين ولسنا نشك في الأمرين جميعا ، والشرع قد ورد به فكيف السبيل إلى الجمع ؟ فاعلم أن هذا الخاطر قد خطر الله تعالى منزه عن الحظوظ والأغراض ، مقدس عن الحاجة إلى الخدمة والإعانة لداود عليه السلام ، وكذلك لموسى عليه السلام ، فقال : يا رب وفي لفظ آخر وشكري لك : نعمة أخرى منك توجب علي الشكر لك ؟ فأوحى الله تعالى إليه : إذا عرفت هذا فقد شكرتني ، وفي خبر آخر : إذا عرفت أن النعمة مني رضيت منك بذلك شكرا . كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك ؟
فإن قلت فقد فهمت السؤال : وفهمي قاصر عن إدراك معنى ما أوحي إليهم فإني أعلم استحالة الشكر لله تعالى ، فأما كون العلم باستحالة الشكر شكرا فلا أفهمه ، فإن هذا العلم أيضا نعمة منه فكيف صار شكرا وكأن ، الحاصل يرجع إلى أن من لم يشكر فقد شكر وأن قبول الخلعة الثانية من الملك شكر للخلعة الأولى ، والفهم قاصر عن درك السر فيه فإن أمكن تعريف ذلك بمثال فهو مهم في نفسه ، فاعلم أن هذا قرع باب من المعارف وهي أعلى من علوم المعاملة ولكنا نشير منها إلى ملامح ونقول ههنا نظران نظر بعين التوحيد المحض ، وهذا النظر يعرفك قطعا وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، وأن ذلك صدق في كل حال أزلا وأبدا لأن الغير هو الذي يتصور أن يكون له بنفسه قوام ، ومثل هذا الغير لا وجود له بل هو محال أن يوجد إذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه وما ليس له بنفسه قوام فليس له بنفسه وجود ، بل هو قائم بغيره فهو موجود بغيره ، فإن اعتبر ذاته ولم يلتفت إلى غيره لم يكن له وجود البتة ، وإنما الموجود هو القائم بنفسه والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقي موجودا ، فإن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره فهو قيوم . أنه الشاكر وأنه المشكور وأنه المحب وأنه المحبوب