ثم أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال بعضها شريف ، كأخذ المصحف ، وبعضها خسيس كإزالة النجاسة ، فإذا أخذت المصحف باليسار ، وأزلت النجاسة باليمين ، فقد خصصت الشريف بما هو خسيس فغضضت من حقه : وظلمته وعدلت عن العدل ، وكذلك إذا بصقت مثلا في جهة القبلة أو استقبلتها في قضاء الحاجة فقد كفرت نعمة الله تعالى في خلق الجهات وخلق سعة العالم لأنه خلق الجهات لتكون متسعك في حركتك ، وقسم الجهات إلى ما لم يشرفها ، وإلى ما شرفها ، بأن وضع فيها بيتا أضافه إلى نفسه استمالة لقلبك إليه ليتقيد به قلبك فيتقيد بسببه بدنك في تلك الجهة على هيئة الثبات والوقار إذا عبدت ربك ، وكذلك انقسمت أفعالك إلى ما هي شريفة كالطاعات ، وإلى ما هي خسيسة ، كقضاء الحاجة ورمي البصاق .
فإذا رميت بصاقك إلى الجهة القبلة فقد ظلمتها وكفرت نعمة الله تعالى عليك بوضع القبلة التي بوضعها كمال عبادتك ، وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت لأن الخف وقاية للرجل فللرجل فيه حظ ، والبداءة في الحظوظ ينبغي أن تكون بالأشرف فهو العدل والوفاء بالحكمة ونقيضه ظلم وكفران لنعمة الخف والرجل ، وهذا عند العارفين كبيرة وإن سماه الفقيه مكروها حتى إن بعضهم : كان قد جمع إكرارا من الحنطة وكان يتصدق بها فسئل عن سببه فقال : لبست المداس : مرة فابتدأت بالرجل اليسرى سهوا فأريد أن أكفره بالصدقة نعم الفقيه لا يقدر على تفخيم الأمر في هذه الأمور لأنه مسكين بل بإصلاح العوام الذين تقرب درجتهم من درجة الإنعام وهم مغموسون في ظلمات أطم وأعظم من أن تظهر أمثال هذه الظلمات بالإضافة إليها فقبيح أن يقال الذي شرب الخمر وأخذ القدح بيساره قد تعدى من وجهين أحدهما الشرب ، والآخر الأخذ باليسار ، ومن فقبيح أن يقال خان من وجهين أحدهما بيع الخمر والآخر البيع في وقت النداء ، ومن باع خمرا في وقت النداء يوم الجمعة فقبيح أن يذكر تركه الأدب في قضاء الحاجة من حيث إنه لم يجعل القبلة عن يمينه ، فالمعاصي كلها ظلمات بعضها فوق بعض فينمحق بعضها في جنب البعض ، فالسيد قد يعاقب عبده إذا استعمل سكينه بغير إذنه ، ولكن لو قتل بتلك السكين أعز أولاده لم يبق لاستعمال السكين بغير إذنه حكم ونكاية في نفسه ، فكل ما راعاه الأنبياء والأولياء من الآداب وتسامحنا فيه في الفقه مع العوام فسببه هذه الضرورة وإلا فكل هذه المكاره عدول عن العدل وكفران للنعمة ونقصان عن الدرجة المبلغة للعبد إلى درجات القرب بعضها يؤثر في العبد بنقصان القرب وانحطاط المنزلة ، وبعضها يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد الذي هو مستقر الشياطين وكذلك من كسر غصنا من شجرة من غير حاجة ناجزة مهمة ومن غير حاجة غرض صحيح فقد كفر نعمة الله تعالى في خلق الأشجار وخلق اليد أما اليد فإنها لم تخلق للعبث بل للطاعة والأعمال المعينة على الطاعة ، وأما الشجر فإنه خلقه الله تعالى وخلق له العروق وساق إليه : الماء وخلق فيه قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده فكسره قبل منتهى نشوة لا على وجه ينتفع به عباده مخالفة لمقصود الحكمة وعدول عن العدل ، فإن كان له غرض صحيح فله ذلك إذ الشجر والحيوان جعلا فداء لأغراض الإنسان فإنهما جميعا فانيان هالكان فإفناء الأخس في بقاء الأشرف مدة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما جميعا وإليه الإشارة بقوله تعالى : قضى حاجته في محراب المسجد مستدبر القبلة وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه نعم إذا كسر ذلك من ملك غيره فهو ظالم أيضا ، وإن كان محتاجا لأن كل شجرة بعينها لا تفي بحاجات عباد الله كلهم بل تفي بحاجة واحدة ، ولو خصص واحد بها من غير رجحان واختصاص كان ظلما ، فصاحب الاختصاص هو الذي حصل البذر ووضعه في الأرض وساق إليه الماء وقام بالتعهد فهو أولى به من غيره فيرجح جانبه بذلك فإن نبت ذلك في موات الأرض لا بسعي آدمي اختص بمغرسه : أو بغرسه فلا بد من طلب اختصاص آخر وهو السبق إلى أخذه فللسابق خاصية السبق فالعدل هو أن يكون أولى به وعبر الفقهاء عن هذا الترجيح بالملك وهو مجاز محض إذ لا ملك إلا لملك الملوك الذي له ما في السموات والأرض وكيف يكون العبد مالكا وهو في نفسه ليس يملك نفسه بل هو ملك غيره نعم الخلق عباد الله والأرض مائدة الله وقد أذن لهم في الأكل من مائدته بقدر حاجتهم كالملك ينصب مائدة لعبيده فمن أخذ لقمة بيمينه واحتوت عليها براجمه : فجاء عبد آخر وأراد انتزاعها من يده لم يمكن منه لا لأن اللقمة صارت ملكا له بالأخذ باليد ، فإن اليد وصاحب اليد أيضا مملوك ، ولكن إذا كانت كل لقمة بعينها لا تفي بحاجة كل العبيد فالعدل في التخصيص عند حصول ضرب من الترجيح والاختصاص ، والأخذ اختصاص ينفرد به العبد فمنع من لا يدلي بذلك الاختصاص عن مزاحمته فهكذا ينبغي أن تفهم أمر الله في عباده ، ولذلك نقول فهو ظالم وهو من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله وإنما سبيل الله طاعته وزاد الخلق في طاعته أموال الدنيا إذ بها تندفع ضروراتهم وترتفع حاجاتهم نعم لا يدخل هذا في حد فتاوى الفقه لأن مقادير الحاجات خفية والنفوس في استشعار الفقر في الاستقبال مختلفة ، وأواخر الأعمار غير معلومة فتكليف ، العوام ذلك يجري مجرى تكليف الصبيان الوقار والتؤدة والسكوت عن كلام غير مهم وهو ، بحكم نقصانهم لا يطيقونه فتركنا الاعتراض عليهم في اللعب واللهو ، وإباحتنا ذلك إياهم لا يدل على أن اللهو واللعب حق ، فكذلك إباحتنا للعوام حفظ الأموال والاقتصار في الإنفاق على قدر الزكاة لضرورة ما جبلوا عليه من البخل لا يدل على أنه غاية الحق وقد أشار القرآن إليه إذ قال تعالى : من أخذ من أموال الدنيا أكثر من حاجته وكنزه وأمسكه وفي عباد الله من يحتاج إليه إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا بل الحق الذي لا كدورة فيه ، والعدل الذي لا ظلم فيه ، أن لا يأخذ أحد من عباد الله من مال الله إلا بقدر زاد الراكب فكل عباد الله ركاب لمطايا الأبدان إلى حضرة الملك الديان فمن أخذ زيادة عليه ثم منعه عن راكب آخر محتاج إليه فهو ظالم تارك للعدو وخارج عن مقصود الحكمة وكافر نعمة الله تعالى عليه بالقرآن والرسول والعقل وسائر الأسباب التي بها عرف أن ما سوى زاد الراكب وبال عليه في الدنيا والآخرة فمن فهم حكمة الله تعالى في جميع أنواع الموجودات قدر على واستقصاء ذلك يحتاج إلى مجلدات ثم لا تفي إلا بالقليل وإنما أوردنا هذا القدر ليعلم علة الصدق في قوله تعالى : القيام بوظيفة الشكر ، وقليل من عبادي الشكور وفرح إبليس لعنه الله بقوله ولا تجد أكثرهم شاكرين ، فلا يعرف معنى هذه الآية من لم يعرف معنى هذا كله وأمورا أخر وراء ذلك تنقضي الأعمار دون استقصاء مباديها . فأما تفسير الآية ومعنى لفظها فيعرفه كل من يعرف اللغة وبهذا يتبين لك الفرق بين المعنى والتفسير .
فإن قلت : فقد رجع حاصل هذا الكلام إلى أن وأنه جعل بعض أفعال العباد سببا لتمام الحكمة وبلوغها غاية المراد منها وجعل بعض أفعالها مانعا من تمام الحكمة فكل فعل وافق مقتضى الحكمة حتى انساقت الحكمة إلى غايتها فهو شكر وكل ما خالف ومنع الأسباب من أن تنساق إلى الغاية المرادة بها فهو كفران ، وهذا كله مفهوم ولكن الإشكال باق ، وهو أن فعل العبد المنقسم إلى ما يتمم الحكمة وإلى ما يرفعها هو أيضا من فعل الله تعالى ، فأين العبد في البين حتى يكون شاكرا مرة وكافرا أخرى ، فاعلم أن تمام التحقيق في هذا يستمد من تيار بحر عظيم من علوم المكاشفات ، وقد رمزنا فيما سبق إلى تلويحات : بمباديها : . الله تعالى حكمه في كل شيء