وإذا دق المجال ولطف لطف الماء مثلا ولم يكن العبور إلا بالسباحة فقد يقدر الماهر بصنعة السباحة أن يعبر بنفسه ، وربما لم يقدر على أن يستجر وراءه آخر فهذه أمور نسبة السير عليها إلى السير على ما هو بحال جماهير الخلق كنسبة المشي على الماء إلى المشي على الأرض ، والسباحة يمكن أن تتعلم فأما المشي على الماء فلا يكتسب بالتعليم بل ينال بقوة اليقين ، ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام يقال أنه مشى على الماء ، فقال صلى الله عليه وسلم : لو ازداد يقينا لمشى على الهواء .
فهذه رموز وإشارات إلى معنى الكراهة ، والمحبة ، والرضا ، والغضب ، والشكر ، والكفران ، لا يليق بعلم المعاملة أكثر منها ، وقد ضرب الله تعالى مثلا لذلك تقريبا إلى أفهام الخلق إذ عرف أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه فكانت عبادتهم غاية الحكمة في حقهم ثم أخبر أن له عبدين يحب أحدهما واسمه جبريل وروح القدس والأمين وهو عنده محبوب مطاع أمين مكين ويبغض الآخر واسمه إبليس وهو اللعين المنظر : إلى يوم الدين ، ثم أحال الإرشاد إلى جبريل فقال تعالى : قل نزله روح القدس من ربك بالحق ، وقال تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وأحال الإغواء على إبليس فقال تعالى ليضل عن سبيله ، والإغواء هو استيقاف العباد دون بلوغ غاية الحكمة ، فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي غضب عليه والإرشاد سياقه لهم إلى الغاية ، فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي أحبه وعندك في العادة له مثال فالملك إذا كان محتاجا إلى من يسقيه الشراب وإلى من يحجمه وينظف فناء منزله عن القاذورات وكان له عبدان فلا يعين للحجامة والتنظيف إلا أقبحهما وأخسهما .
ولا يفوض حمل الشراب والطيب إلا إلى أحسنهما وأكملهما وأحبهما إليه ولا ينبغي أن تقول هذا فعلي ولم يكون فعله دون فعلي ، فإنك أخطأت إذ أضفت ذلك إلى نفسك بل هو الذي صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه ، والفعل المحبوب بالشخص المحبوب إتماما للعدل فإن عدله ، تارة يتم بأمور لا مدخل لك فيها ، وتارة يتم فيك فإنك أيضا من أفعاله فداعيتك وقدرتك وعلمك وعملك وسائر أسباب حركاتك في التعبير هو فعله الذي رتبه بالعدل ترتيبا تصدر منه الأفعال المعتدلة إلا أنك لا ترى إلا نفسك فتظن أن ما يظهر عليك في عالم الشهادة ليس له سبب من عالم الغيب والملكوت ، فلذلك تضيفه إلى نفسك وإنما أنت مثل الصبي الذي ينظر ليلا إلى لعب المشعبذ الذي يخرج صورا من وراء حجاب ترقص وتزعق وتقوم وتقعد وهي مؤلفة من خرق لا تتحرك بأنفسها ، وإنما تحركها خيوط شعرية دقيقة لا تظهر في ظلام الليل ورءوسها ، في يد المشعبذ وهو محتجب عن أبصار الصبيان فيفرحون ويتعجبون لظنهم أن تلك الخرق ترقص وتلعب وتقوم وتقعد وأما العقلاء فإنهم يعلمون أن ذلك تحريك وليس بتحريك ولكنهم ربما لا يعلمون كيف تفصيله والذي يعلم بعض تفصيله لا يعلمه كما يعلمه المشعبذ الذي الأمر إليه والجاذبة بيده ، فكذلك صبيان أهل الدنيا ، والخلق كلهم صبيان بالنسبة إلى العلماء ينظرون إلى هذه الأشخاص فيظنون أنها المتحركة فيحيلون عليها والعلماء يعلمون أنهم محركون إلا أنهم لا يعرفون كيفية التحريك وهم الأكثرون إلا العارفون والعلماء والراسخون فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطا دقيقة عنكبوتية بل أدق منها بكثير معلقة من السماء متشبثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض ، لا تدرك تلك الخيوط لدقتها بهذه الأبصار الظاهرة ثم شاهدوا رءوس تلك الخيوط في مناطات لها هي معلقة بها وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هي في أيدي الملائكة المحركين للسموات ، وشاهدوا أيضا ملائكة السموات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ما ينزل عليهم من الأمر من حضرة الربوبية كي لا يعصوا الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وعبر عن هذه المشاهدات في القرآن وقيل: وفي السماء رزقكم وما توعدون وعبر عن انتظار ملائكة السموات لما ينزل إليهم من القدر والأمر فقيل : خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما وهذه أمور لا يعلم تأويلها إلا الله وعبر والراسخون في العلم رضي الله عنهما عن اختصاص الراسخين في العلم بعلوم لا تحتملها أفهام الخلق حيث قرأ قوله تعالى : ابن عباس يتنزل الأمر بينهن فقال : لو ذكرت ما أعرفه من معنى هذه الآية لرجمتموني ، وفي لفظ آخر : لقلتم إنه كافر .