الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن عجائب حكمة الله تعالى أن عنقهما ليس داخلا في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد ومن عجائب حكمة الله تعالى أن عنقهما ليس داخلا في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد حتى يجذب ما يليها بعد الطلوع من العروق الدقيقة التي في الكبد إذ لو اجتذب قبل ذلك لغلظ ، ولم يخرج من العروق فإذا انفصلت منه المائية فقد صار الدم صافيا من الفضلات الثلاث نقيا من كل ما يفسد الغذاء ثم إن الله تعالى أطلع من الكبد عروقا ثم قسمها بعد الطلوع أقساما وشعب كل قسم بشعب ، وانتشر ذلك في البدن كله من الفرق إلى القدم ظاهرا وباطنا ، فيجري الدم الصافي فيها ويصل إلى سائر الأعضاء حتى تصير العروق المنقسمة شعرية : كعروق الأوراق والأشجار بحيث لا تدرك بالأبصار فيصل منها الغذاء بالرشح إلى سائر الأعضاء ولو حلت بالمرارة آفة فلم تجذب الفضلة الصفراوية فسد الدم وحصل منه الأمراض الصفراوية كاليرقان والبثور والحمرة وإن حلت بالطحال آفة فلم يجذب الخلط السوداوي حدثت الأمراض السوداوية كالبهق والجذام والماليخوليا وغيرها وإن لم تندفع المائية نحو الكلى حدث منه الاستسقاء وغيره ثم انظر إلى حكمة الفاطر الحكيم كيف رتب المنافع على هذه الفضلات الثلاث الخسيسة أما المرارة فإنها تجذب بأحد عنقيها ، وتقذف بالعنق الآخر إلى الأمعاء ليحصل له في ثفل الطعام رطوبة مزلقة ، ويحدث في الأمعاء لذع يحركها للدفع فتنضغط حتى يندفع الثفل وينزلق وتكون صفرته لذلك وأما الطحال فإنه يحيل تلك الفضلة إحالة يحصل بها فيه حموضة وقبض ، ثم يرسل منها كل يوم شيئا إلى فم المعدة ، فيحرك الشهوة بحموضته ، وينبهها ويثيرها ويخرج الباقي مع الثفل . وأما الكلية فإنها تغتذي بما في تلك المائية من دم ، وترسل الباقي إلى المثانة .

التالي السابق


(ومن عجائب حكمة الله تعالى أن عنقهما ليس داخلا في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد) وهو عرق عظيم أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره (حتى يجذب مائيتها بعد الطلوع من العروق الدقيقة) الشعرية (التي في الكبد إذ لو اجتذب قبل ذلك لغلظ، ولم يخرج من العروق) فيغذي الكليتين الدسومة والدموية من تلك المائية، ويندفع باقيها إلى المثانة والإحليل. (فإذا انفصلت منه المائية) الفضلية عن الدم عند خروجه من الكبد (فقد صار الدم صافيا من الفضلات الثلاث نقيا من كل ما يفسد الغذاء) وصارت المائية إلى هذين المنفذين فتجذبهما الكليتان فيكون الغذاء الواصل إلى الأعضاء بلا مائية فضلية، والثاني من كل منهما يمر متسفلا حتى يصل بالمثانة، ويسميان "الحالبين"، وهما مجرى البول، وإنما جعل الكليتان ثنتين لأن أكثر أعضاء البدن زوج، والدماغ ينقسم بقسمين، وكذا الأعصاب، والعضلات، والعروق، والشرايين، فكان البدن بدنان، وإن كان في الحقيقة واحدا، فجعل الكليتين ثنتين ليعمل كل منهما عمله من جانب. ولما كان القلب أشرف الأعضاء، وكذا الرئة، لأنها خادمة للقلب، وجب أن يكون غذاؤهما أصفى وأنضج من غذاء جميع الأعضاء، فلهذا قدر الخالق تعالى شأنه أن العرق الذي يوصل غذاء هذين العضوين إليهما نزل من الكبد إلى الكليتين، ونفذ فيهما، ثم خرج منهما ورجع إلى فوق، لتجذب الكليتان بقوتهما المصاصة المائية المصاحبة للدم الذي فيهما لغذائية هذين العضوين الشريفين، ولينضج الدم المذكور في هذه المسافة الطويلة ويتصل غذاؤهما إليهما صافيا نضيجا .

(ثم إن الله تعالى أطلع من الكبد عروقا ثم قسمها بعد الطلوع أقساما وشعب كل قسم بشعب، وانتشر ذلك في البدن كله من الفرق إلى القدم ظاهرا وباطنا، فيجري الدم الصافي فيها) بعد اندفاعه في العرق العظيم الطالع من حدبة الكبد المسمى بالأجوف فيسلك في الأوردة المتشعبة منه ثم في جداول الأوردة ثم في سواقي الجداول ثم في رواضع السواقي ثم في العروق الشعرية الكثيفة فينهضم بالهضم الثالث (ويصل إلى سائر الأعضاء حتى تصير العروق المنقسمة شعرية) أي: كهيئة الشعر في الدقة (كعروق الأوراق) الظاهرة فيها (والأشجار) المستبطنة في الأرض (بحيث لا تدرك بالأبصار) لدقتها وخفائها (فيصل منها الغذاء بالرشح إلى سائر الأعضاء) فيحصل لنصيب كل عضو عنده هضم رابع (ولو حل بالمرارة آفة فسد الدم وحصل منه الأمراض الصفراوية) وذلك بأن يتفق قصور في جذبها الصفراء من الكبد بدم الكبد [ ص: 112 ] فترتفع الصفراء في الكبد فتحدث الحميات الحادة، وإن اتفق دفعها إلى أعضاء البول قبل الوقت اللائق بذلك حدثت قرحة المثانة وحرقتها، وإن تفرقت في جميع البدن حدثت أمراض (كاليرقان) وهو محركة تغير فاحش في اللون إلى صفرة أو سواد أو هما معا يجريان الخلط إلى الجلد (والبثور) وهي من جنس الأورام وهي أنواع ومنها صفراوية كالنملة (والحمرة) والنار الفارسية، وإن نزلت إلى الأمعاء تولد السحج والإسهال الصفراوي (وإن حلت بالطحال آفة فلم يجذب الخلط السوداوي) الحامض العفص لضعفه (حدثت الأمراض السوداوية) في البدن (كالبهق) الأسود (والجذام والماليخوليا وغيرها) كالقوبا والدوالي وداء الفيل، وإن قصر في الجذب فلم يستوف ما ينبغي جذبه تولد ورم الكبد وسقوط شهوة الطعام، وإن اندفع إلى المعدة أكثر مما ينبغي تولد الشهوة الكابية، وإن كان فيما ينجذب إلى المعدة حموضة من غير عفوصة تولد الغثيان، فإن كان كثيرا تولد القيء، وإن نزل ذلك أي الحامض من المعدة إلى الأمعاء تولد السحج السوداوي المهلك، (وإن لم تندفع المائية نحو الكلى حدث منه الاستسقاء وغيره) من الأمراض إذ الماء لا يصلح للغذائية بل هو مركب الغذاء، أعني الدم، فإذا انفصل عن الدم زالت الحاجة إليه، وكل شيء زالت الحاجة إليه إذا بقي في البدن يتولد منه مرض .

(ثم انظر إلى حكمة الفاطر الحكيم) جل شأنه (كيف رتب منافع على هذه الفضلات الثلاث الخسيسة) وهي الصفراوية والسوداوية والبلغمية. (فأما المرارة) التي هي وعاء الصفراء (فإنها تجذب بأحد عنقيها، وتقذف بعنق آخر إلى الأمعاء) قد تقدم أن المرارة عضو عصباني ذو طبقة واحدة، وله منفذان، أحدهما هو الجاذب للصفراء، والثاني ينفذ فيه الصفراء، ثم يصير إلى الأمعاء الاثنى عشر، ثم إلى الأمعاء الأخر (فيحصل له في نقل الطعام رطوبة مزلقة، ويحدث في الأمعاء لذع يحركها للدفع فتنضغط حتى يندفع الثقل وينزلق) وتنظف الأمعاء من الرطوبات الغليظة بواسطة الحدة (وتكون صفرته لذلك) وقد سمى المصنف هذين المنفذين عنقين، وهما عند الأطباء منفذان، قالوا وفي بعض الناس يوجد منفذ آخر صغير منها إلى قعر المعدة ينفذ فيه بعض من الصفراء فيدخل المعدة، وقد يكون هذا المنفذ في بعض الناس كبيرا حتى يكون أكبر من المنفذ المتصل بالمعى المذكور. فبهذا السبب ينصب في المعدة صفراء كثير، وصاحبه يكون دائما مبتلى بمرارة الفم، وسوء الهضم، وفساد الغذاء في المعدة، والدوار ويبوسة الطبع، والغثيان .

(وأما الطحال فإنه يحيل تلك الفضلة إحالة يحصل بها فيه حموضة وقبض، ثم يرسل منها كل يوم شيئا إلى فم المعدة، فيحرك الشهوة بحموضة، وينبهها ويثيرها) أي: يحركها (ويخرج الباقي مع الثفل. وأما الكلية فإنها تغتذي بما في تلك المائية من دم، وترسل الباقي إلى المثانة) من الحالبين، ويسميهما الأطباء "البرنجين". ثم في الغذاء جوهر صالح لأن يتشبه بالمغتذي، وجوهر غير صالح له وهو الفضلة، ففي كل هضم يحصل فضلة، ففضلة الهضم الأول تندفع إلى طريق الأمعاء، وهي البخر، وفضلة الهضم الثاني يندفع أكثرها بالبول، وباقيها من الطحال والمرارة، وفضلة الهضمين الآخرين يندفع بالتحلل الذي لا يحس بالعرق والوسخ الخارج من منافذ طبيعية محسوسة كالأنف والأذن، وغير محسوسة كالمسام أو خارجة عن الطبع كما في الأورام المنفجرة والبثرات والجدري وبما ينبت من زوائد البدن كالشعر والظفر .




الخدمات العلمية